يوم الجمعة الماضي، أصدرت القيادة الجماعية لحكومة "الوفاق" في طرابلس قراراً يقضي بـ"وقف وزير الداخلية... احتياطياً عن العمل ومثوله للتحقيق الإداري". جاء ذلك في خضمّ تظاهرات شعبية في العاصمة احتجاجاً على الفساد المستشري في الدولة والانقطاع المتكرر للكهرباء ونقص السيولة وانتشار النفايات في الشوارع. رفض وزير الداخلية، فتحي باشاغا، منع المحتجّين من التظاهر وغلق الطرقات المؤدّية إلى وسط المدينة على رغم حظر التجول المفروض لاحتواء وباء "كوفيد - 19". كما انتقد التعامل العنيف معهم مِن قِبَل "القوة المشتركة" المؤسَّسة حديثاً والمتكوّنة من ميليشيات طرابلسية. تدريجياً، صَعّد الرجل لهجته، وقال في تغريدة على "تويتر" إن "التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي مكفول لكلّ مواطن، وعلينا الاستماع جيّداً إلى صوت الشارع"، وردّ على منتقديه بأن "المندسّين ليسوا المتظاهرين، بل الذين ظهروا بمظهر رجال الأمن وهم مجموعة خارجة عن القانون أطلقت النار". لم تقبل مجموعات مسلّحة محسوبة على الحكومة وتؤدّي مهامّ أمنية لمصلحتها، تصريحات باشاغا، ولا سيما أن لها حساباً قديماً معه تَجدّد بعد انتهاء الهجوم على طرابلس حيث استأنف الرجل وعوده بحلّ الميليشيات ودمجها في القوات النظامية. أصدرت تلك المجموعات تهديدات للوزير، وحَمّلته مسؤولية ما جرى، كما صدر تكليف لها من المجلس الرئاسي في يوم إيقاف عمل باشاغا نفسه بـ"ضبط الأمن في العاصمة".
يرغب محور الشرق في اتخاذ حزمة إجراءات سياسية قبل خفض التصعيد


لكن، أظهرت التطورات أن لوزير الداخلية حزاماً متيناً من الداعمين، جزء كبير منهم من الأجهزة الأمنية نفسها. وافق باشاغا على التحقيق معه، حتى إنه طالب ببثّ المداولات على التلفزيون، ووصل في موكب استعراضي إلى مقرّ المجلس الرئاسي. جرى التحقيق يوم الخميس، واستمرّ ساعات قبل أن يُختتم ببيان أعلن فيه المجلس الرئاسي رفع الوقف الاحتياطي عن العمل واستئناف باشاغا لمهامّه. وفي بيان مصوّر، أكد هذا الأخير مواصلة العمل على دمج التشكيلات المسلحة وإعادة تأهيلها.
يرى مقربون من قيادة "الوفاق" أن لدى وزير الداخلية طموحات في إطاحة الحكومة عبر السعي إلى عقد صفقة مع عقيلة صالح، رئيس البرلمان المتركّز في شرق البلاد. ويرى آخرون أن باشاغا يمثل حصان رهان تركي، وخاصة أنه يتحدّر من مدينة مصراتة الساحلية النافذة عسكرياً ومالياً. لكن يبدو ذلك مبالغاً فيه. ما حصل اختبار متبادل، أراد السراج من خلاله إظهار أنه قادر على إدارة الوضع في غرب البلاد، وكبح باشاغا الذي قد تؤدّي حماسته إلى اقتتال بين التشكيلات العسكرية التي حاربت حفتر. لكن الإبقاء على وزير الداخلية أظهر أيضاً أن وجوده مهم والتخلّص منه ليس أمراً سهلاً، بكلّ ما يمثله من انتماء جهوي وعلاقات مع تركيا والغرب ودول الجوار، وخطابه المنفتح خاصة تجاه مصر والحازم إزاء بعض شركائه.

حفتر و«الحرب المستمرة»
رَكّز محور المشير خليفة حفتر، في الفترة الأخيرة، على تغذية الخلافات داخل محور "الوفاق". جاء ذلك عبر تصريحات للمتحدث باسمه، وأيضاً عبر شبكة إعلامية واسعة من تلفزيونات ومواقع إلكترونية، يتلقى أغلبها تمويلاً إماراتياً. وتراوحت ردود فعل حفتر ومحيطه إزاء إعلان وقف إطلاق النار، الصادر الشهر الماضي في بيانين لرئيس البرلمان ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة طرابلس، بين الرفض و"التطلّع إلى... إطلاق عملية سياسية ناجحة"، وفق ما جاء في أحدث بيانات المتحدث باسم حفتر، أحمد المسماري.
في هذا السياق، واصلت قوات حفتر القيام بتحرّكات عسكرية، تندرج - على رغم محدوديتها - في إطار سردية "الحرب المستمرة" التي تحرص على ترويجها وإبقائها حيّة. وفق مندوب حكومة "الوفاق" في الأمم المتحدة، طاهر السني، جرى توجيه احتجاج رسمي نهاية الشهر الماضي إلى مجلس الأمن الدولي حول "الخروقات المتكررة" في محيط مدينة سرت وسط البلاد، والتي تَمثلت خاصة في شنّ قوات حفتر عمليات قصف. تُمثّل الحرب بالنسبة إلى حفتر عنصراً أساسياً لحضوره في المشهد، تتقلّص مع انتهائها أو توقفها إمكانية فرض وجوده في المشهد العام وتدابيره لترسيخ هيمنته الأمنية في شرق البلاد.
في الأثناء، وعلى رغم تراجع تهديد استئناف الحرب وخطر قيام مواجهة مباشرة بين تركيا ومصر، لا تزال المفاوضات حول إنشاء "منطقة منزوعة السلاح" في مدينة سرت ومنطقة الجفرة الواقعة جنوبها، واستئناف إنتاج النفط وتصديره، تراوح مكانها. تشير صور وشهادات إلى تواصل انتشار مقاتلي مجموعة "فاغنر" العسكرية الروسية في المواقع الطاقية، ما يعني أن قوات حفتر لم تتخذ أيّ إجراء عملي لإظهار حسن نياتها.
كذلك، ثمّة إشارات على رغبة محور شرق ليبيا وداعميه في أن يتمّ اتخاذ حزمة إجراءات سياسية متكاملة قبل بدء تنفيذ أيّ خطوات لخفض التصعيد. تصبّ مطالب هذا المحور في إيجاد صيغة جديدة لتوزيع إيرادات الطاقة، وإعادة تشكيل المجلس الرئاسي لحكومة "الوفاق"، وسحب المقاتلين السوريين من غرب البلاد. يلقى المطلب الأول قبولاً من أهمّ الفاعلين في غرب ليبيا، لكن هؤلاء يطالبون بإخراج قوات "فاغنر" من البلاد، ويطرحون تنظيم انتخابات تشريعية. أيضاً، ترفض شريحة واسعة التفاوض مع حفتر، أو ضمان موقع له كقائد للجيش، لاقتناعها بأنه يسعى إلى الإمساك بالسلطة.
يقود كلّ ذلك إلى اعتبار حالة الجمود العسكري والسياسي القائمة في ليبيا صيغة معدّلة لِما قبل حرب طرابلس: حالة لا حرب ولا سلم، مع تخندق كلّ محور وراء مطالب قُصوَوية تبدو مستحيلة التطبيق. الفارق الوحيد بين الوضعين السابق والحالي هو وجود قوات أجنبية في البلاد خلقت توازناً عسكرياً خفّض طموحات الحلّ العسكري.