يتصاعد التوتر في ليبيا إلى درجة أنه صار يمكن تتبّع التطورات بالساعات لا بالأيام. ليلة الأحد ــــ الإثنين شهدت نشاطاً استثنائيّاً. أعلنت قوات المشير خليفة حفتر فرض منطقة حظر طيران وسط البلاد، بما في ذلك جزء من البحر حيث تجول بوارج تركية. وبالرغم من أن مثل هذه الإجراءات لا تحمل في العادة جدّية كبيرة لصعوبة تطبيقها، فإنها ترافقت مع أخبار غير مؤكدة حول طلعات لطائرات مصريّة مدعومة بأخرى إماراتية، بالتوازي مع بيانات وتصريحات لحكومة «الوفاق الوطني» ومسؤوليها تتابعت حتى الصباح. وظهر أمس، حطّت طائرة عسكرية أميركية في مطار مدينة زوارة غربي العاصمة طرابلس، على متنها السفير ريتشارد نورلاند، وقائد «القيادة العسكرية في إفريقيا» (إفريكوم) الجنرال ستيفن تاوسند، ومسؤولون آخرون، ليعقدوا اجتماعاً مع رئيس المجلس الرئاسي لحكومة «الوفاق الوطني»، فائز السراج، ووزير الداخلية، فتحي باشآغا، ورئيس الأركان اللواء ركن محمد الشريف، وآخرين.لم تتسرّب معلومات كثيرة عن اللقاء، لكن ما رشح يفيد برغبة في إعادة عناصر «إفريكوم» إلى غرب البلاد. وهؤلاء انسحبوا مع بداية الهجوم على العاصمة، ما يعني سياسياً العودة إلى ترتيبات ما قبل نيسان/ أبريل 2019، التي تنصّ على أن «الوفاق» جهة التنسيق الوحيدة. وترجّح خطوة كهذه عدم رسم الأميركيين «خطوطاً حمراً» أمام مساعي دحر حفتر، مع أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى حضور رسمي لشنّ عمليات في ليبيا، إذ ثبت ذلك خلال الحرب، وهو ما يجعل إعادة التمثيل الرسمي رسالة خارجية لخّصها الإعلامي البارز الداعم لـ«الوفاق»، نعمان بن عثمان، بالقول إنها «رسالة على الطريقة الأميركية: أصدقاؤنا الروس، نحن هنا». فمنذ أشهر، صار الهمّ الأساسي للأميركيين الحضور الروسي غير المباشر عبر مقاتلي شركة «فاغنر» الأمنية الخاصة، ويتركز هؤلاء حالياً في قاعدة «الجفرة» الجوية وسرت بعد انسحابهم من جنوب طرابلس وترهونة، فيما سيكون دفعهم إلى مغادرة ليبيا إنجازاً يصبّ في مصلحة واشنطن.
أيضاً تأتي زيارة الأميركيين بعد تضارب مواقفهم منذ إطلاق قوات حفتر هجومها العام الماضي. فقد بدت الولايات المتحدة في مرحلة أولى داعمة له عبر اتصالين هاتفيين للرئيس دونالد ترامب، ومستشاره السابق جون بولتون، مع المشير الليبي، قبل أن تراجع الإدارة موقفها تحت ضغط تقارير مسؤولين من وزراتَي الخارجية والدفاع. لكن يبدو أن نواة استراتيجية تجاه ليبيا بصدد التشكّل في محورها منع ترسيخ النفوذ الروسي. كما أن التنسيق مع الجانب الأميركي مهمّ أيضاً لـ«الوفاق» كي تنفي تهمة «رعاية الإرهاب» التي يرميها بها خصومها، وتكسر العزلة الدولية التي تعيشها، وخاصة أنها تفتقر إلى حلفاء جديّين باستثناء تركيا. أما الأخيرة، فتستفيد من وجود أميركي إلى جانب «الوفاق»، ولا سيما مع تصاعد التوتر بينها وبين فرنسا واليونان حول الملف الليبي، إذ من المفيد أن يلتقي موقف أنقرة مع الدولة الأقوى داخل «حلف شمالي الأطلسي» في ظلّ مناكفات مع دول أعضاء أخرى.

العودة إلى أي حدود؟
في المبدأ، عبّر طرفا النزاع عن رغبتهما في استئناف المفاوضات، لكن لكلّ شروطه. تبنّى حفتر ومحوره «مبادرة القاهرة»، وهي في الحقيقة ليست أكثر من صياغة محسّنة لمبادرة قدّمها رئيس برلمان شرق البلاد، عقيلة صالح، قبل مدة، ويرى كثيرون أنها «خطيرة» لأنها تكرّس تقسيم السلطة بين أقاليم ليبيا الثلاثة، كأن لكلّ منها أجندة خاصة به، ويستتبع ذلك تكريس نفوذ الدول الفعالة في الملف. أما «الوفاق»، فأصرّت على تراجع حفتر خارج سرت والجفرة، وهو في الواقع شرط سابق دافعت عنه منذ محاولات الوساطة الأولى في خضمّ الهجوم على طرابلس. يقوم هذا الطلب على أساس منطقي هو إقامة منطقة فاصلة بين الشرق والغرب تضمن ألا تشنّ قوات حفتر هجوماً جديداً لاحقاً. فالحدود التاريخية قائمة بين إقليمَي برقة (شرق) وطرابلس، والمعنى هنا يعود إلى الحدود بين منطقتَي نفوذ الإغريق والبونيقيين التي تبناها الاستعمار الإيطالي مطلع القرن العشرين في المنطقة الصحراوية التي تفصل بين سرت وأجدابيا وتخلو من مدن كبرى.
تعني إعادة عناصر «إفريكوم» العودة إلى ترتيبات ما قبل نيسان 2019


هذا ما تفكّر فيه «الوفاق»، ما يعني أن مطلبها ليس مجرّد رغبة في «العودة إلى حدود 2015» كما راج خطأ، ففي ذلك العام، كانت سرت واقعة تحت سيطرة تنظيم «داعش» قبل أن تحرّرها قوى المنطقة الغربية في 2016، ثم تخسرها مطلع هذا العام. ولا العودة إلى حدود 2017، فقد كانت آنذاك قوات حفتر تسيطر على الجفرة (سهل جنوب سرت يحوي مجموعة بلدات وقاعدة جوية). وترى طرابلس هذا الشرط ضرورة بناءً على تجارب الأعوام الماضية. وقد حاولت الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة التفاوض مع حفتر منذ تشكيلها، وقد التقاه السراج مرات كان أولاها في مقره بالرجمة (شرق) وآخرها في أبو ظبي برعاية وليّها محمد بن زايد، كما بينهما لقاءات برعاية الرئيسين، المصري عبد الفتاح السيسي، والفرنسي إيمانويل ماكرون، وجميع هؤلاء حلفاء أو داعمون لحفتر. مع ذلك، أعلن حفتر «الساعة الصفر» لاقتحام طرابلس قبل أيام قليلة من انعقاد مؤتمر مصالحة برعاية الأمم المتحدة هو الأكبر لناحية تمثيل الفاعلين الليبيّين، وقد استغرق تنظيمه أشهراً شملت عشرات الاستشارات الجماعية مع المجتمعات المحليّة في البلاد.

اجتماع مؤجل
من جهة أخرى، تأجلت جلسة استثنائية لجامعة الدول العربية كانت مقررة أمس إلى اليوم، وذلك على مستوى وزراء الخارجية. برّر الأمر رسمياً بصعوبات تقنية. لكن الحقيقة غير ذلك، فقد رفضت «الوفاق» عقد الاجتماع للمرة الثانية، وفق بيان لخارجيتها أمس، وذلك «بعد الاطلاع على مشروع قرار مقدّم من مصر». في الواقع، ترى «الوفاق» أن الجامعة واقعة تحت هيمنة مصر التي تحاول توظيفها بما يخدم مصلحتها. هذا الأمر ليس جديداً، إذ طلبت الحكومة عقد اجتماع للجامعة منذ إعلان حفتر هجومه على طرابلس، لكنها جوبهت بالتجاهل. في المقابل، تمّت الاستجابة لطلب مصري لتنظيم اجتماع حول ليبيا في كانون الأول/ ديسمبر، ألقى خلاله مندوب «الوفاق» خطاباً حاداً هاجم فيه حلفاء حفتر العرب، قائلاً إن «كيل الجامعة بمكيالين يدفعنا إلى التفكير بجدية في جدوى البقاء تحت مظلتها».
ينطبق الأمر على الموقف من البرلمان العربي الذي توجّه إليه عقيلة صالح بحثاً عن مواقف لمصلحة محور حفتر. وصالح قطعة مهمّة في التحالف المصري ــــ الإماراتي ــــ السعودي، إذ يُعوّل عليه لإضفاء شرعية على أيّ تدخل عسكري محتمل، في حين أن الرجل رئيس فقط للبرلمان ولا يملك سلطة اتخاذ قرارات نيابة عنه. فهذا البرلمان المتركّز شرق البلاد لا يجمع في أكثر جلساته نجاحاً بضع عشرات من النواب من بين 188 نائباً، في حين يجتمع نحو 70 من نوابه في طرابلس منذ إطلاق حفتر هجومه عليها، فضلاً عن التخويف المسلط على أعضائه غير الموالين لحفتر. وآخر حادثة في هذا السياق اختطاف النائبة سهام سرقيوة من منزلها في بنغازي منتصف العام الماضي، والاعتداء على عائلتها، ثم انقطاع أخبارها، نتيجة دعوتها إلى الحوار والمصالحة عقب عودتها من اجتماع برلماني مع نواب مصريين في القاهرة.