تونس | خلال ندوة صحافية، يوم الجمعة الماضي، قدّمت حركة «النهضة» تصورها لشكل وأولويات الحكم في الفترة المقبلة. يشمل مشروع الوثيقة خمسة محاور كبرى و120 نقطة، وتطمح الحركة إلى أن تيسّر «إدارة حوار بين الأحزاب الفائزة في المحطة الانتخابيّة»، بهدف «الوصول إلى برنامج الحدّ الأدنى الذي يجمع بين الأطراف المعنية». وتنطلق «النهضة»، في صياغتها لرؤيتها، من مجموعة مسلّمات تدور جميعها حول «الأزمة المالية والاقتصادية الحادة» التي تعيشها البلاد، والتي تشمل ارتفاع العجز التجاري والدين السيادي والتضخّم، ونسب البطالة وتراجع قيمة العملة المحلية. مع ذلك، يبدو تصوّر الحركة لتخفيف الآثار الاجتماعية للأزمة الاقتصادية مبتوراً، ذلك أنه يتبنّى مواصلة تطبيق توصيات كبار الدائنين الخارجيين، خصوصاً «صندوق النقد الدولي»، مع ترويج حلول «تضامنية» تُلقي المسؤولية على المجتمع وتزيحها عن الدولة التي تكتفي بدور رقابي وتنظيمي.
في هذا السياق، تُخصّص الوثيقة محوراً عن «مقاومة الفقر ودعم الفئات الهشّة والمتوسطة الدخل»، وتطرح اقتراحات مثل المصادقة في البرلمان على «مشروع قانون تنظيم مؤسسات الاقتصاد التضامني»، وهو قانون مهم طالبت به جهات مدنية مطوّلاً، لكنها صارت تحتج على النسخة الحالية للمشروع التي تقدمت بها الحكومة بعدما أفرغته من جزء كبير من محتواه الأصلي. من المقترحات أيضاً «إحداث صندوق الزكاة والأطر الترتيبية للمؤسسات غير الربحية»، الأمر الذي كان من الوعود التي أعادت «النهضة» طرحها خلال حملتها بعدما فشلت سابقاً في تطبيقها.
وفي المحور ذاته، تقترح الوثيقة «إقرار منحة خصوصية للأطفال لضمان حصولهم على التعليم والتغذية والرعاية الصحية والمسكن اللائق». ويبدو هذا البند مبهماً ويفتقر إلى التخصيص اللازم، لاسيما أنه يوجد حالياً منحة مماثلة موروثة منذ زمن حكم بورقيبة، لكن قيمتها لا تزال متدنية، علاوة على أنها تتناقص مع ارتفاع عدد الأطفال للعائلة الواحدة (كان ذلك في إطار سياسة «التنظيم العائلي» للحدّ من الولادات).
وتشمل المقترحات الأخرى تشديد الدور الرقابي للدولة على مسالك توزيع السلع وتخفيض الضرائب عليها، والمصادقة على قانون يُعمّم التغطية الصحية الأساسية، كما يضمن الحد الأدنى من الدخل لكل الفئات. وتعمل الدولة بالفعل على تطبيق المقترح الأخير، عبر منح بطاقات علاج مجاني ونصف مجاني ومنح لعشرات آلاف العائلات، لكن يتم ذلك بتوصيات من «صندوق النقد الدولي» ضمن تصوّره لتخفيف التفاوت الاجتماعي، وبهدف نهائي هو رفع دعم الدولة عن قطاعات أساسية.
تظهر مسألة رفع الدعم في محور آخر من الوثيقة، يحمل عنوان «دفع نسق الاستثمار والنمو والتشغيل ــ استعادة توازنات المالية العمومية»، الذي يُخفى تحت عبارة «الإصلاح» الموارِبة. يدور محور هذا «الإصلاح» حول «توجيه الدعم مباشرة إلى مستحقيه»، ويتم ذلك عبر «إحداث منحة المقدرة الشرائية للفئات الضعيفة والمتوسطة». ويعتري هذا التصوّر اختلالات عدّة، انطلاقاً من هوية «مستحقي» الدعم. وإذا كان بالإمكان تحديد الفئات الضعيفة هنا، فكيف يمكن تعريف الفئات المتوسطة؟ وإن كانت الفئتان، الضعيفة والمتوسطة، تمثلان غالبية المجتمع، لماذا لا يتمّ فرض ضرائب على الفئة المرفهة (أفراد ومشاريع اقتصادية)، وهي الأقل عدداً والأكثر وضوحاً وقابلية للتحديد، لتعويض تمتّعها غير المستحق بالدعم الذي يشمل الطاقة والمياه والمواد الغذائية الأساسية؟
يحتوي هذا المحور أيضاً على إجراءات أخرى تبدو غير منطقية، من بينها الحديث عن «وضع خطّة لإدماج القطاع (الاقتصادي) الموازي بما يوسّع القاعدة الجِبائية وينهض بالسيولة». ولتطبيق ذلك تُقترح إجراءات مثل تغيير الأوراق النقدية، لإدماج السيولة المتداولة خارج المسارات القانونية وتخفيض الضرائب على استيراد السلع المتداولة في الأسواق غير المنظمة والقادمة عبر التهريب من دول الجوار.
يشمل مشروع الوثيقة خمسة محاور كبرى و120 نقطة


ويوجد تضارب بين الهدف والإجراءات المقترحة، فإن كانت الغاية «إدماج» الاقتصاد غير المنظّم فإن الاجراءات تهدف إلى تصفيته، أو بالأحرى عرقلة نشاطه مؤقتاً. ويصعب فعليّاً تقييد الاقتصاد القائم على التهريب، لأنّ له قدرة كبيرة على المقاومة عبر تغيير وتنويع السلع المهرّبة، ولأن وجوده ضروري لتوفير مصادر دخل لعشرات آلاف العائلات. أجهزة الدولة تعلم كل ذلك، وهي تغضّ البصر على التهريب والمهرّبين لأن التضييق عليهم سيجعلهم يتوجّهون إليها لطلب بديل، والبديل الوحيد هو توفير مَواطن شغل واستثمارات، وهي عاجزة عن ذلك.
وتقترح حركة «النهضة» التحكّم بكتلة الأجور، عبر ربط ترفيعها بالنمو والإنتاجيّة والتضخّم. وقد حاولت الحكومات السابقة سلك هذا النهج، خلال مفاوضاتها مع «الاتحاد العام التونسي للشغل» ــ النقابة الأكبر في البلاد ـ لكنّها فشلت، لأن النقاش انقسم حول رأيين: ترى الحكومة أن النمو والانتاجية لم يرتفعا ولا يمكن بالتالي ترفيع الأجور، لأن ذلك سيصير بلا معنى في ظل تزايد التضخّم؛ وترى النقابة في المقابل أن زيادة الأجور ضرورية لرفع النمو، عبر دفع الاستهلاك والإنتاجية، عبر تحفيز الموظفين، ولتقليص أثر التضخم على القدرة الشرائية. وفي جميع المفاوضات السابقة فازت النقابة، لا لقوة حجّتها، بل لأنّها تملك سلاح الإضراب.
مع ذلك، يحوي مشروع «النهضة» بعض النقاط المضيئة، خصوصاً في ما يتعلق بإصلاح الإدارة وإحداث توازن في الخريطة الصحية والاعتناء بالتعليم وتعزيز الحكم المحلي. من ضمن المقترحات، مثلاً، إلغاء نصف التراخيص الموجودة التي تكبّل الاستثمار، ومواصلة رقمنة الإدارة وفتح المناصب العليا فيها للتناظر، وإصلاح وزارة الداخلية عبر فصل الخدمات الإدارية (جواز السفر، بطاقة سوابق، إلخ) عن الأمنية، وإحداث 5 أقطاب استشفائية جامعية، وخلق «مجلس أعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي»، وهو اقتراح لرئيس الجمهورية، قيس سعيّد.
توجد إجراءات أخرى كثيرة في المشروع، بعضها مستقى من برامج أحزاب أخرى تطمح «النهضة» لإشراكها في الحكم. لكن، يُنظر إلى هذه الوعود بكثير من الريبة، وذلك نتيجة فقدان الثقة في الأحزاب، لاسيما أن غالبية الوعود مكرّرة من أعوام سابقة من دون أن تُطبّق. تبدو «النهضة» مصرّة هذه المرة على الالتزام بتعهداتها لناخبيها، وتقترح أن توضع ورقة أهداف لكل وزير يقيّمه البرلمان كل فترة على ضوئها، لكن هل هذا كافٍ؟
يبدو التفاؤل صعباً، أولاً بناءً على تواصل الصراعات الحزبية وما سيتبعه من انعدام للاستقرار الحكومي والنيابي، وثانياً بالنظر إلى موازنة العام المقبل التي تشمل تدايناً جديداً يقارب 4 مليارات دولار، وخدمة ديون قديمة بقيمة مقاربة، وتوقع عجز في الموازنة بقيمة 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أما مخصّصات التنمية فهي لا تتجاوز 2.5 مليار دولار.