تونس | الملف الصحي للباجي قائد السبسي ليس موضوعاً جديداً في تونس، بل كان مثار خلاف منذ عام 2014، تاريخ آخر انتخابات. طالبه حينها معارضون لترشّحه بنشر تقرير صحي، يؤكد أهليته لتولي مهام تستوجب العمل ساعات طويلة يومياً، قد لا يكون رجل على مشارف التسعين قادراً على الاضطلاع بها. تمنّع قائد السبسي ومحيطه عن تقديم تقرير مماثل، واكتفوا بالتأكيد على سلامته الصحية، كما اعتبروا الأمر مجرد مماحكة سياسية من الخصوم.على امتداد أكثر من أربعة أعوام، لم تظهر مشاكل صحية مثيرة للقلق لدى الرجل، فيما كان يتم الإعلام بين الحين والآخر عن إجرائه «فحوصات دورية»، بعضها خارج البلاد، في فرنسا تحديداً. جاءت الانعطافة نهاية الشهر الماضي، عندما أُدخل الرجل إلى المستشفى العسكري في تونس، لإجراء فحوصات، ثم للإقامة بعد تعرّضه لـ«وعكة صحية حادة»، وفق بلاغ لرئاسة الجمهورية. خلال ساعات قليلة، غابت فيها المعلومة الموثوقة، نشر بعض وسائل الإعلام الأجنبية إشاعة وفاة قائد السبسي، لكن انتهى الأمر بصدور بيانات تطمين.
بعد أيام، خرج الرئيس من المستشفى، وعاد تدريجياً إلى نشاطه إثر «تعافيه»، وفق وصف الرئاسة، لكن هاجس رحيله على نحو مفاجئ بقي قائماً. بداية هذا الشهر، وقّع الرجل على تمديد حالة الطوارئ لشهر، وهو إجراء صار روتينياً منذ تولّيه المسؤولية، ووقّع أيضاً على دعوة الناخبين إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية. لكن الأهم من كل ذلك، كان إبرازه رغبته في مواصلة خوض صراعات الرئاسة، عبر تحدّيه البرلمان ورئاسة الحكومة، وقد بدا للحظة كما لو أنه اجتاز الأزمة الصحية، إلى درجة إثارة أحد فروع حركة «نداء تونس» المنقسمة موضوع إعادة ترشيحه للرئاسيات.
رفَض الرئيس التوقيع على التعديلات التي أدخلها البرلمان على قانون الانتخابات، والتي جاءت باقتراح من الحكومة. تشمل التعديلات استهدافاً واضحاً لعدد من الشخصيات والكيانات السياسية «الشعبوية»، وتقضي ببطلان ترشّح كلّ من أعطى الناخبين هبات في شكل مساعدات، ومن تلقّى تمويلات خارجية ولو تحت غطاء جمعياتي، ومن يستهدف الديمقراطية ويمجّد انتهاكات حقوق الإنسان. كما تستهدف أيضاً الأحزاب الصغيرة، عبر وضع عتبة انتخابية تحول دون دخول البرلمان لِمَن نال أقلّ من 3 في المئة من الأصوات.
جاء تبرير رفض التوقيع على التعديلات على لسان مستشار رئيس الجمهورية، نور الدين بن تيشة، الذي قال إن قائد السبسي «يرفض منطق الإقصاء، ويرفض أن يمضي تعديلات قُدّت على المقاس لجهات معينة». وفي واقع الأمر، لم يكن رفض التوقيع مشكلة في حد ذاته، إذ كانت التعديلات ستعود وفق الإجراءات إلى البرلمان الذي يصادق عليها مرة أخرى ثم تُنشر في الجريدة الرسمية، لكن الرئيس أراد أن يلعب لعبة الوقت. عبر رفضه توقيعها، عطّل قائد السبسي صدور التعديلات في الجريدة الرسمية قبل بدء موعد فتح باب الترشح للانتخابات التشريعية، ما يعني عدم دخولها حيز التنفيذ واستعمال القانون القديم غير المعدّل.
رفَض الرئيس التوقيع على التعديلات التي أدخلها البرلمان على قانون الانتخابات


كان للحكومة والبرلمان خطط بديلة لفرض التعديلات، وكان لرئيس الجمهورية أوراقه أيضاً، لكن الوقت لم يسعفه. الفكرة المحورية هنا هي أن قائد السبسي مارس السياسة إلى آخر رمق، وأراد التأثير في مستقبل البلاد، على رغم مجادلة البعض بأنه وقع تحت تأثير مستشاريه والدائرة المقرّبة منه في أيامه الأخيرة.
توفي الرجل صباح أمس، وذلك بعد إدخاله عشية أول من أمس إلى المستشفى العسكري بـ«قرار من الأطباء المباشرين له»، وفق تصريح بن تيشة. يوافق يوم وفاة قائد السبسي الذكرى الـ62 لإعلان الجمهورية، وقد كان يستعد لإلقاء خطاب في المناسبة يتناول فيه عدداً من الملفات الراهنة. يقول مصدر لـ«الأخبار» إنه كان مبرمجاً أن يُلقي الرئيس خطابه أمام البرلمان، في محاولة لحثّ النواب على عدم التصويت مرة أخرى لصالح تعديل قانون الانتخابات، لكن لم يعلن عن الأمر لأنه بقي مشروطاً بوضعه الصحي.
بعد ظهر أمس، قام رئيس البرلمان، محمد الناصر (85 عاماً)، الذي يعاني بدوره من مشاكل صحية، بأداء القسم ليصير رئيساً مؤقتاً. تمّ الأمر في غياب المحكمة الدستورية، المسؤولة دستورياً عن إعلان شغور منصب رئاسة الجمهورية، والتي أثير جدل كبير حول إنشائها عقب أزمة قائد السبسي الصحية نهاية الشهر الماضي، لكن البرلمان فشل منذ ذلك الحين في انتخاب حصته من أعضائها، على رغم عقد جلسات متتالية حول الموضوع (8 جلسات فاشلة في المجمل).
يقول الدستور إن «رئيس مجلس نواب الشعب يتولى فوراً مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوماً وأقصاه تسعون يوماً»، وقد أبدت هيئة الانتخابات جاهزيتها لتأمين انتخابات رئاسية مبكرة. وفي حال تمّ عقد الانتخابات الرئاسية في أقصى أجل من فترة تولي الرئيس المؤقت المسؤولية، فإن تاريخها لن يكون بعيداً عن موعد إجرائها الطبيعي، المحدد في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر.
حتى الآن، يبدو التعامل مع الحالة الطارئة سلساً ولا يتعرض لعراقيل، لكن المستقبل القريب يبدو حافلاً بالصراعات. يرتبط أهم الرهانات الحالية بالانتخابات الرئاسية، فبوفاة قائد السبسي فقدت الساحة السياسية أحد أبرز المرشحين الذين يتجمع وراءهم عدد مهم من الفاعلين. وتظلّ مسألة تطبيق التعديلات في قانون الانتخابات معلقة، ورهن رغبة الرئيس المؤقت والبرلمان، لكن حتى في حال دخول التعديلات حيز التنفيذ وإقصاء عدد من الوجوه، ستشهد الرئاسيات تنافساً حاداً بين مرشحين لهم حظوظ متقاربة، يسعى كل منهم للوصول إلى قصر قرطاج، على رغم الصلاحيات المحدودة لرئاسة الجمهورية.