عندما قرر خليفة حفتر شنّ هجوم على طرابلس، أراده أن يكون كحبّةِ كرزٍ فوق كعكة انتصاراته التي بدأت بسيطرته على مجمل شرق ليبيا، ثم أجزاء واسعة من جنوبها ووسطها. ربما جاء الهجوم قبل عشرة أيام من موعد انعقاد «الملتقى الوطني» مفاجئاً من ناحية التوقيت، لكن التخطيط لدخول طرابلس كان يجري منذ أمد بعيد. فلم تغب طرابلس، بثقلها الديمغرافي والسياسي لحظة عن ذهن الرجل. وهو منذ أطلق «عملية الكرامة» عام 2014، كان يطمح إلى تكوين جسد سياسي جديد يدعمه بعملية عسكرية ليحكم البلاد. هذا التوجه استوحاه حفتر من تجربة عبد الفتاح السيسي في مصر، وهو لم يخف ذلك في حواراته مع الصحافة، كذلك جاء بدعم وتشجيع من الإمارات والسعودية، في إطار مشروع القضاء على «الإسلام السياسي».وانضمت فرنسا إلى هذا التحالف بدفع من هواجسها لمحاربة «الإرهاب»، لكن تلك ليست سوى «حجة» تخفي مشروعها الفعلي الذي يتحدث عنه التاريخ: هو الوصول إلى أنظمة ديكتاتورية علمانية في إفريقيا، أو مجمل العالم الثالث.
المشهد الميداني تغلب عليه المراوحة منذ أسبوعين بين كرّ وفرّ (تصميم سنان عيسى) | أنقر على الصورة لتكبيرها

مضت الأيام وتغيرت معطيات كثيرة، وأفضت الجهود الدولية إلى عقد صفقة مصالحة كان أعداؤها أكثر من مسانديها. مع ذلك، تشكلت حكومة «وفاق وطني» يديرها مجلس رئاسي يشمل أعضاءً من جميع مناطق البلاد، وتصدّر سياسيون تكنوقراط جبهة الغرب، فيما استمر الحال على ما هو عليه في الشرق حيث تمركز حفتر. وبذلك، صارت حكومة «الوفاق» معترفاً بها دولياً، وخسر الإسلاميون وأنصار الثورة الأكثر راديكالية مواقعهم الأمنية في طرابلس، لكنهم احتفظوا ببعض التأثير في «المجلس الأعلى للدولة»، وهو هيكل استشاري تشكل بموجب اتفاق المصالحة، وكذلك في بعض المؤسسات المهمة الأخرى.
بات الأمن في طرابلس بيد ميليشيات محلية أخذت تتوسع وتنغمس داخل الدولة، لكن مدينتَي مصراتة والزنتان، المحيطتين بالعاصمة، حافظتا على بعض التمركزات داخلها، خاصة بعدما عقدتا اتفاق مصالحة العام الماضي لتجاوز آثار القتال بينهما عام 2014 (كانت قوات الزنتان حينها موالية لحفتر، وقوات مصراتة موالية لـ«فجر ليبيا»)، وحافظت مجموعات أخرى أيضاً على مواطئ قدم، مثل «القوة الوطنية المتحركة» التي ينحدر أغلب أعضائها من الأمازيغ. والتفّ كل هؤلاء حول حكومة «الوفاق»، وإن كانت طبيعة علاقتهم معها تقوم على الدعم المشروط والابتزاز في أحيان كثيرة. لكن، في المقابل، حافظ حفتر على ولاء بعض المجموعات العسكرية في المدن القريبة من طرابلس، وحاول تكوين دعم شعبي له، عبر استقبال أعيان مناطق غربية. ولهؤلاء دور مهم في استراتيجيته للسيطرة على طرابلس.
تمثل الميليشيات المشبوهة الداعمة لـ«الوفاق» ذريعة للغرب لعدم دعمها


فشل إذاً المسعى الأولي للسيطرة على طرابلس عام 2014، لكنه لم يذهب أدراج الرياح، إذ يعلم حفتر أن من يحكم العاصمة يحكم البلاد. الخطة البديلة التي أطلقها بداية الشهر، تقوم على تحريك خلاياه في طرابلس (أساساً في مدن غريان، ترهونة، صبراتة)، ثم دعمها من عدة محاور بعناصر قوية ومنظمة استجلبها من مناطق سيطرته الأخرى. كان حفتر يأمل أن يباغت حكومة «الوفاق»، التي تعاني من تشرذم ونزاعات داخلية، وأن يستحصل دعماً من سكان طرابلس والمدن المحيطة، الذين ملّوا من عجز الحكومة عن ضبط الأوضاع وتسيب الميليشيات. لكن هذه الخطة لم تنجح أيضاً حتى الآن، بل وضعت أغلب قوات المنطقة الغربية خلافاتها جانباً، وتوحدت ضد حفتر، عدوها المشترك. وهي الآن تقاتل جنباً إلى جنب مع قوات طُردت من العاصمة ونُكّل بها، من مهربي بشر ووقود مدانين، ومجموعات طُردت من بنغازي تُتهم بأنها أقامت سابقاً تحالفاً مع «أنصار الشريعة» وميليشيات طرابلسية. وقد سمح ذلك لحكومة «الوفاق» بأن تحافظ على وجودها، لكنه في الواقع يهدد مستقبلها إذا نجحت في صدّ قوات حفتر ودحرها. فبقدر ما مثل هذا التحالف سنداً لحكومة «الوفاق»، مثل أيضاً خاصرتها الرخوة في صراعها مع حفتر حول الدعم الدولي. إذ يهمس الدبلوماسيون الغربيون بأسماء الميليشيات المشبوهة هذه، ويستخدمونها كذريعة لعدم دعم «الوفاق»، رغم أنهم هم من حرصوا على تشكيلها، وما زالوا يعترفون بشرعيتها ممثلاً وحيداً لليبيا.
ويتفق أغلب المراقبين اليوم على أن الصمت الدولي تجاه ما يحصل في طرابلس، يعكس رغبة لدى اللاعبين الدوليين في انتصار حفتر، وتمكين المشروع الإماراتي ـــ السعودي من تأسيس أنظمة ديكتاتورية علمانية (طبعاً يُغضُّ البَصر عن جحافل السلفيين المدخليين المنخرطين ضمن قوات حفتر، حيث يُنظر إليهم كقوة طيّعة يمكن ضبطها بفتوى سعودية).
أمام كل هذا، لم يبق لحكومة «الوفاق الوطني» حلفاء واضحون كثر بخلاف قطر وتركيا، وهؤلاء يدعمونها بدورهم ضمن الدفاع عن مشروعهم الإقليمي، ويمكن تدخلاً خارجياً مباشراً داعماً لحفتر أن يقلب الطاولة عليها. لكن لا تزال توجد لديها أسلحتها، من سبيل تحذيرات للأوروبيين من تدفق عشرات آلاف المهاجرين نحو سواحلهم، علماً أن خطر انهيار الحكومة المعترف بها لا يهدد أوروبا فقط، فهو يُنذر أيضاً بإحداث شروخ اجتماعية بين مدن وقبائل قد تشعل فوضى تمتد إلى أعوام.