قبل الخطاب الأخير لرئيس هيئة أركان الجيش، أحمد قايد صالح، الذي دعا فيه إلى تطبيق المادة 102 من الدستور، التي تنص على إعفاء رئيس الجمهورية من مهماته بسبب عجزه عن القيام بها، طالب قطاع واسع من الرأي العام بالشروع في مرحلة انتقالية لن تخلو بالضرورة من المشكلات والتحديات. لكن رفض الحركة الاحتجاجية تولي رئيس مجلس الأمة، عبد القادر بن صالح، مهمات الرئيس في المرحلة الانتقالية، على قاعدة الامتناع عن أي تسوية مع النظام، قد يفضي إلى تعميق الأزمة التي تشهدها البلاد واستفحالها.عملياً، أخذ الجيش بما يعتقد أنه خيار تطبيق الدستور للحفاظ على مؤسسات الدولة، وتأمين الاستقرار لضمان انتقال هادئ للسلطة، في مواجهة الحركة العميقة المطالبة بتغيير النظام القائم، الذي تتنازع داخله مجموعة من المصالح يصعب تحديدها للسيطرة على الرأسمال البترولي التابع للدولة الجزائرية. وهو خيار من شأنه، وفق بعض المحللين، تحقيق وحدة بين المؤسسة العسكرية والشعب، كما يرى أستاذ الفلسفة والمساعد السابق لأحمد محساس أحد مطلقي ثورة 1 تشرين الثاني، نوفمبر 1954، محند بيري، الذي يرى أن الجيش يعكس إلى درجة ما تناقضات المجتمع الجزائري، ولا يخلو من آفة الفساد، إلا أن التيار السائد في داخله، الذي يمثله قايد صالح اليوم، «يدعم مطالب الشعب الجزائري».
في المقابل، لا يعتقد الرئيس السابق لـ«حزب العمال الاشتراكي»، المناضل السياسي شوقي صالحي، بوجود انقسام داخل الجيش، الذي يضمّ قطبين صاحبَي مبادرة، هما رئيس الأركان قايد صالح، ورئيس جهاز الاستخبارات بشير طرطاق. لكنه يرى أن الجيش «في وضع الأزمة الحادة وتزعزع الاستقرار الحاد، يجد نفسه في (مأزق)، باعتباره عنصر الاستقرار الأخير للنظام، ويظهر قايد صالح يومياً في الأخبار المتلفزة في حين تغيب فيه الحكومة». وتشير المعلومات الواردة من رأس النظام، بحسب صالحي، إلى «وجود تشاور بين عدة شركاء في عملية صناعة القرار، عوضاً عن حصرها في السلطة المركزية».
وبمعزل عمّا إذا كان «الحل التوافقي» الذي اقترحه الجيش سيجد سبيله إلى التنفيذ أو لا، فإن التحدي الأول الذي ينتظر الجزائريين هو إيجاد قوى بديلة لدفع عملية الفرز السياسية والأيديولوجية التي تساعد في العملية الانتقالية. والحال أن حركة الاحتجاج الشعبي قد نبذت العديد من الشخصيات السياسية. لكن بالنسبة إلى عالمة الاجتماع الجزائرية فاطمة أوصديق، فإن السلطة هي المسؤولة عن إقصاء عدة وجوه يحترمها الناس في مرحلة الغليان الحالية: «كل يوم تُحرق وجوه يمكن أن يقبلها الحراك. لكن، أنا متأكدة من أن للجزائر موارد، وأنه لا يوجد مخرج غير الدفاع عن جمهورية ديموقراطية واجتماعية. أي عن نظام سياسي يتوافق مع تاريخنا على المدى الطويل، ويأخذ في الحسبان مجمل القوى الاجتماعية القائمة ضد الانحرافات الدكتاتورية، أو قل الملكية، للنظام القائم».
رفض شخصيات المعارضة الليبرالية عروض السلطة سببه جذرية المتظاهرين


هنا، يرى شوقي صالحي ومحند بيري أن الصعوبات التي تواجه هذا التحول حقيقية. يقول الأول إن رفض شخصيات المعارضة الليبرالية للعروض التي طرحتها عليهم السلطة للمشاركة في حكومة انتقالية سببه جذرية المتظاهرين، مشيراً إلى أن تلك الشخصيات «فقدت الصدقية بإعلانها تشكيل تنسيقية وطنية للتغيير، تضم كادرين سابقين للجبهة الإسلامية للإنقاذ». ويضيف: «بمعزل عن السجل التراجيدي للإسلاموية، ترفض الحركة الاحتجاجية كل الطبقة السياسية، وقد أعادت الأحداث تأكيد هذا الرفض». أما محند بيري، فيرى في «التنسيقية الوطنية للتغيير»، التي تجمع تسع شخصيات من المعارضة والمجتمع المدني (على غرار رئيس «حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية» محسن بلعباس، والقيادي في حزب «جبهة القوى الإشتراكية» مصطفى بوشاشي، والقيادي في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» كمال قمازي) مشروعاً لثورة مضادة؛ «فمن الناحية السوسيولوجية، هذه القوى تعتبر ضعيفة، لكنها تبقى مع ذلك شديدة التأثير عبر السيطرة التي تمارسها على وسائل الإعلام وارتباطاتها الدولية». ويضيف أنها تسعى اليوم «للاستفادة من الانتقال لإحداث تغيير من فوق لا يمكنها الوصول إليه عبر اللعبة الديموقراطية».
ويتوقع بيري احتدام الصراع بين مشروعين متناقضين: الأوّل ممثَّل بالحراك الذي يسعى إلى تعميق الثورة، بإعادة إبراز الشعب في الساحة السياسية، وتحقيق تغيير يرقى إلى تطلعاته، والثاني يحمله «تيار الثورة المضادة» الذي تمثله هذه «التنسيقية»، و«تتمحور اقتراحاته الأساسية للإصلاح حول دور المؤسسة العسكرية، والمطالبة بعودة الجيش إلى الثكنات»، أي تحويل الجيش إلى قوة رديفة، تتدخل خارج الحدود، إلى جانب قوى خارجية. وبحسب أستاذ الفلسفة، «هم يطالبون حتى بتغيير في بنيته نفسها، مع إعادة النظر في الخدمة العسكرية الإلزامية، وبطابعها الشعبي. إنها قوى تشكك في عروبة الجزائر، وهو موقف لن يكون بلا تأثير على المستوى الجيوسياسي، فضلاً عن أن برنامجهم يندد أيضاً بالطبيعة الرئاسية للنظام بذرائع زائفة، ويدافعون عن الخيار الفيدرالي. إنه برنامج خطير».
في المقابل، يرى شوقي صالحي أن الخطر الأكبر يأتي من سلطة تحاول كسب الوقت، مشيراً إلى أن «الملايين من المتظاهرين السلميين يُدينون السلطة ويدمرون شرعيتها، لكنهم لا يلغون سيطرتها على المجتمع». لكن السلطة تأمل في تراجع قوة الحركة مع مرور الوقت، وهي تراهن على إعادة التموضع عبر تقديم وجوه جديدة، أو بالأحرى «واجهات» جديدة كما يقول. ويضيف الرئيس السابق لـ«حزب العمال الاشتراكي» أن «التعليمات التي تعطيها السلطة للمنظمات والجهات المرتبطة بها، هي إظهارٌ لحسن نياتها والاختلاط بالشعب الموحَّد. ونظراً للمشاركة الشعبية الوازنة في الحركة الاحتجاجية، هي ستسعى إلى تغيير الفريق الحاكم الحالي لمصلحة مجموعة أخرى قادرة على الاستفادة من الصدمة النفسية التي سبّبتها الاحتجاجات، في محاولة للتوجه أسرع ما يمكن نحو المزيد من الليبرالية».

جيل يواجه جدار النظام
مع مضي شهر على انطلاق حركة الاحتجاج، من دون أن يضعف مستوى مشاركة الشارع، أظهر اتساع هذه الحركة، والنضج والإبداع اللذان أبداهما الشباب الجزائري، وجود جدار عازل حقيقي بين الحكام والمحكومين، ورغبة الأخيرين في تحقيق تغيير هيكلي يقود إلى «رحيل النظام». ما يجري حقيقة، هو نتاج تطور مجتمع عرف تبدلات عميقة. لكنّ حكام البلاد، الغارقين في عالم السلطة وصراعاته، تجاهلوا ـــ من وجهة نظر فاطمة أوصديق ـــ الجيل الجديد الصاعد.
هؤلاء الشباب، بحسب أوصديق، «أغلبهم مدينيون ومتعلمون ومطلعون على أحوال العالم عبر شبكات التواصل الاجتماعي والسفر. وبما أنهم ممنوعون من المشاركة في الحياة السياسية التي تسيطر عليها أجنحة السلطة المختلفة، فقد تشكل وعيهم في الملاعب، وضمن حركة جمعيّاتية خاضعة لمراقبة مشددة، وفي المقاهي، وأمام مداخل العمارات. تعلموا التواصل في ما بينهم، ومع بقية العالم أيضاً، رغم معاناتهم من البطالة، فيما كانت أنماط الحياة والاستهلاك بصدد التغير».
وترى عالمة الاجتماع أن وضع النساء ومكانة العائلة عرفا تحولات عميقة أسهمت في إنضاج الوضع الحالي. لم تعد النساء سجينات المنزل، وأصبحن يشغلن مواقع تتزايد أهمية في الفضاء العام. كذلك فإن العائلة الموسعة، التي يخضع ضمنها الشباب والنساء للسلطة البطريركية، دخلت في طور الانحسار على المستوى الاجتماعي، رغم رغبة الحكام في إدامتها كنموذج عبر قانون الأحوال الشخصية. تشير أوصديق إلى أن «الدراسات السوسيولوجية أظهرت أن الشكل السائد للعائلة، هو ذلك الذي يضم الأهل وأبناءهم المباشرين والأجداد. هو بتعريفنا العائلة العامودية. وتفسر هذه المعطيات مجتمعة توق الجزائريين والجزائريات اليوم، كأفراد، إلى مواطنة كاملة».
بدوره، يشدد عالم الاجتماع الجزائري، ناصر جابي، على القطيعة النفسية والسياسية بين المجتمع الذي تحول بشكل عميق من جهة، وبين النظام السياسي من جهة ثانية. ويمكن إدراك هذه القطيعة، بالنظر إلى التظاهرات الكبرى التي جمعت أكثر من 15 مليون شخص ينحدرون من مختلف الفئات الاجتماعية، وكافة مناطق البلاد. ويلفت جابي إلى أنّ «باستطاعتنا أن نلحظ خلال هذه الاحتجاجات، غياب المطالب القطاعية الاجتماعية والمهنية، رغم حدة الأزمة الاجتماعية بالنسبة إلى الشباب، واحتشاد الجزائريين حول معجم سياسي محض، ترافقه رموز ومرجعيات وطنية». وهو يشدد على الوعي السياسي العالي لهؤلاء الشباب، الذين باتوا يفضلون مقاطعة مباريات كرة القدم جماعياً للمشاركة في التظاهرات.