تونس | لم يكن مسار «العدالة الانتقالية» في تونس يسيراً. لا يزال يواجه مصاعب تجعل من الصعب التنبؤ بمصيره. مباشرة، بعد انتخابات عام 2014، تحولت رئيسة «هيئة الحقيقة والكرامة»، سهام بن سدرين، إلى وجه خلافي، إذ رأى فيها خصومها، وبخاصة حركة «نداء تونس»، صاحبة الغالبية البرلمانية، شخصية تحمل ضغائن وتتبنى مقاربة «انتقامية». تشدَّدَ هذا الرأي بعد حصص الاستماع المتلفزة التي عقدتها الهيئة، إذ اعتبر نواب «نداء تونس»، الذين شغل كثير منهم مناصب في نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، أن التركيز كان على الضحايا الإسلاميين، وأنه وقع تهميش قضايا أخرى، مثل الاعتداءات ببنادق «الرش» على متظاهري مدينة سليانة عام 2012، أي أثناء فترة حكم حركة «النهضة». من جهتها، نفت «هيئة الحقيقة والكرامة» هذا الانحياز، ونظمت جلسات شملت قضايا لمساجين يساريين، وآخرين من حوادث سليانة وغيرهم.استمر الصراع، ونجح النواب البرلمانيون المعارضون للهيئة في التصويت ضد تمديد فترة أعمالها بداية هذا العام، على رغم أنه لم يحضر الجلسة سوى 70 منهم (من بين 217 نائباً)، بينما قاطعتها الغالبية التي رأت أن التصويت في حد ذاته، أمر غير قانوني، وأنه يمكن للهيئة أن تمدد أعمالها بنفسها. رضخت «هيئة الحقيقة والكرامة» لقرار البرلمان، لكن بقي من حقها استكمال العمل على الملفات التي بحوزتها، وهي تبلغ حوالى 60 ألف ملف، قبل إحالتها إلى مجالس قضائية مختصة، تأسست للغرض، حتى تستكمل كتابة تقريرها النهائي. خفت حدة الصراع مؤقتاً، لكنه عاد إلى الواجهة مرة أخرى، مع تصاعد الخلاف بين «نداء تونس» ورئيس الحكومة، يوسف الشاهد، إذ أعلنت الحركة في تشرين الأول/ أكتوبر، مقاطعتها لأعمال البرلمان، إلى حين توضيح أسباب مواصلة الهيئة لأعمالها على رغم قرار البرلمان (وقد تراجعت عن المقاطعة بسرعة).
زاد الصراع حول «الهيئة» مع تصاعد الخلاف بين «نداء تونس» والشا


أما أحدث مستجدات هذا الملف، فقد أُثيرت عقب إزاحة وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية، مبروك كرشيد، من حكومة يوسف الشاهد، في التعديل الوزاري الشهر الماضي. خرج الرجل ليقول إن حركة «النهضة» هي من تقف وراء إقالته، بسبب حرصه على حماية أموال الدولة، ورفضه تحملها مصاريف جبر ضرر الضحايا، حين رفض حضور ممثلين لوزارته في «جلسات التحكيم»، التي نظمتها «هيئة الحقيقة والكرامة»، للتوسط بينها وبين متضررين من الدولة. التقطت حركة «نداء تونس» هذا الخيط، لتقرر سحبه إلى آخره، فتقدمت كتلة الحركة في البرلمان، باقتراح ضمن «لجنة المالية»، ينصّ على حذف «صندوق الكرامة»، بحجة أنه يكلف الدولة مئات ملايين الدينارات، وقدمت كتلتا «الائتلاف الوطني» و«الحرة»، المواليتين للحكومة، باقتراح ينص على إيقاف مساهمات الدولة في الصندوق، على امتداد الأعوام الثلاثة المقبلة. وعلى رغم إسقاط المقترحين داخل اللجنة، حيث صوتت كتلتا حركة «النهضة» و«الكتلة الديموقراطية» (من المعارضة) ضدهما، بينما بقيت كتلة «الجبهة الشعبية» على الحياد، قرّر «النداء»، الأربعاء الماضي، رفع قضية طعن في الصندوق إلى المحكمة الإدارية، متعللة بوجود خلل قانوني في نظام تمويله.
ولتوضيح مسألة التمويل، قال وزير المالية، رضا شلغوم، أمس، في إطار جلسة عامة برلمانية، إن «الأرقام التي سمعتها في لجنة المالية، والجلسة العامة، لا تتضمنها موازنة الدولة للعام المقبل»، مضيفاً أن التمويل سبق أن تم ضبطه بأمر حكومي، وشدد على أن «العدالة الانتقالية» ملف «محل إجماع». وقد جاء في الأمر الحكومي الذي ذكره شلغوم، الصادر في شهر شباط/ فبراير من هذا العام، أن موارد «صندوق الكرامة»، تتركب من «نسبة من أموال الراجعة لميزانية الدولة، والمتأتية من القرارات التحكيمية الصادرة عن لجنة التحكيم والمصالحة»، سيتم ضبطها لاحقاً، و«الهبات والتبرعات والعطايا غير المشروطة» (ويوجد حديث عن أن قطر ستقدم مبلغاً في هذا الإطار)، و«كلّ المصادر الأخرى التي يمكن رصدها للصندوق، طبقاً للتشاريع الجاري بها العمل»، وأخيراً «ترصد اعتمادات من موازنة الدولة عند فتح الصندوق في حدود 10 ملايين دينار» (حوالي 3.7 مليون دولار).
يبدو اليوم، أن «العدالة الانتقالية» تسير بعيداً من غايتها الأولية، أي تحقيق مصالحة مجتمعية شاملة، تبدأ باعتراف المذنبين، واعتذارهم، وتقديم تعويضات (أول هؤلاء هي الدولة نفسها)، لجبر ضرر الضحايا معنوياً ومادياً. صار الجدل أحد مكونات الاستقطاب السياسي، بين شقي السلطة، أي حركتا «نداء تونس» و«النهضة»، في إطار صراعهما المتجدد، إذ يسعى كل منهما إلى حصر المسألة في خيارين لا ثالث لهما، وبالتالي، شطر الرأي العام، ولا يبدو أن هذا الملف في طريقه إلى الحل قريباً، وسيكون، بدرجة كبيرة، رهين نتائج الانتخابات المقبلة، المقررة نهاية عام 2019.