يبقى ثقل الإرث الاستعماريّ راسخاً على مستوى الذاكرة التاريخيّة. ولا يزال المستعمِرون القدماء متشبثين بصورة الاستعمار المُشتهاة، ضاربين عرض الحائط بإرادة المستعمَرين القدماء في إبلاغ وجهة نظرهم التاريخيّة، ومعارضين تسليط المؤرخين الضوء على الملامح الوحشيّة للمشروع الاستعماريّ. ويثير إرث تلك الثقافة مشكلة تدريس التاريخ ونقل الأساطير التي شكّلها المخيال الاستعماريّ ثم دُمجت في السرديّة الوطنيّة.
المؤرخون التقليديون غير مهتمين بتاريخ «النهب» (عن الويب)

مرّ 14 عاماً على ظهور كتاب بيار بيون «سطو على مدينة الجزائر: تحقيق في عملية نهب» (صدرت الترجمة عن منشورات الشهاب، الجزائر، 2013)، وهو تحقيق تاريخيّ حول عمليّة النهب المنظمة لخزينة إيالة الجزائر في عام 1830، يثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ صحّة الأطروحة القائلة إنّ الحملة صُمِّمَت وخُطِّط لها بوصفها عمليّة سياسيّة فرنسيّة داخليّة، في سياق ترنّح السلطة وتفسّخ التوافق الوطنيّ في فرنسا.
نظّمت عمليّة النهب سلالة البوربون (منها ينحدر منها الملك شارل العاشر)، ونفذها لوي دو بورمون، الذي سيصير مستقبلاً ماريشال فرنسا وبطل غزو مدينة الجزائر رغم بقاء «خيانته الشائنة» في «معركة واترلو» حيّة في عقول جميع معاصريه. لم يكن غزو الجزائر مرتبطاً قطّ بإرادة الملك شارل العاشر الثأر لإهانة الضربة التي وجهها داي الجزائر (لقب كان يحمله حكام الجزائر) للقنصل الفرنسيّ دوفال، ولا بتحرير العرب من الاحتلال العثمانيّ، بل بوضع اليد على كنز عجيب تقول أعلى التقديرات إنّ قيمته تعادل الآن مليار يورو.
في 14 حزيران/جوان 1830، نزلت القوات الفرنسيّة المكوّنة من 37 ألف مقاتل في منطقة سيدي فرج التي تبعد 21 كيلومتراً عن «قصبة الجزائر»، وذلك لتنفيذ السطو الهادف إلى ملء خزينة ملك فرنسا، فيما اتسعت تدريجاً دائرة المستفيدين من التحويلات الماليّة أبعد مما كان مخططاً له في البداية. ويحدّد تحليل بيار بيان، المدهش، المستفيدين من نهب خيرات إيالة الجزائر التي وقع جزء منها بين يدي شارل العاشر، والمقربين منه استخدموه (بفضل حميّة لويس دو بورمون ودوقة بيري) في تمويل «المؤامرات الكاريّة» الهادفة إلى استعادة العرش الإسبانيّ لمصلحة عائلة البوربون.
ما بقي ذهب لملك فرنسا الجديد لويس فيليب، البارونات والعسكريّين مثل المحاسب العام للجيش الفرنسيّ م. فيرينو، ولكن أيضاً للشركة الخاصّة التي حصلت على الحقّ الحصريّ لنقل مؤن الجيوش عقب حملة الجزائر: «لا ميزون سيليير». بوصفها المموّن الرئيسيّ للجيش الفرنسيّ بتكليف من دو بورمون ومن دون إجراء مناقصة عامّة، استفادت «لا ميزون سيليير» من نهب موارد الإيالة والسيطرة على السوق من خلال شراء الخيرات والمنتجات المنهوبة بأسعار بخسة، ومن ثمّ نقلها بواسطة أسطول مكوّن من 357 سفينة وتنظيم بيعها في المركز الاستعماريّ بنسب ربح ضخمة تحوّل مباشرة إلى حساب الشركة، أو باستخلاص مقابل باهظ لعمليّات النقل لحساب طرف ثالث.
بغزو الجزائر عام 1830، وضعت فرنسا يدها على كنز مالي ضخم


عندما بدأ مؤلف كتاب «سطو على مدينة الجزائر» أبحاثه، لم يكن يعرف هذا التاريخ القذر، وقد خلا مشروع الكتابة من أيّ نيّة سياسيّة. لكن السرد الذي ركّز في البداية على مرحلة من مراحل حياة الجنرال دو بورمون (غزو مدينة الجزائر)، قاده نحو تحقيق دعّمته المعطيات المُجمّعة في أرشيف القائد الأعلى للحملة، وشهادات من تلك الحقبة، وأعمال لجنة التحقيق، ولكن بشكل خاص برقيات دبلوماسيّة من قنصل بريطانيا سان ــ جان، تشهد أنّ قرار الاستعمار اتُّخِذ بعد الغزو.
في حديث إلى «الأخبار»، يوضّح المؤلف منهجه: «كانت فرضيّة الانطلاق (تتمثل في) البحث في قرار الغزو بوصفه مسألة مرتبطة بالسياسة الداخليّة، لم تكن حكومة شارل العاشر تحظى بشعبيّة، وكانت تواجه نزاعات في فرنسا، وكان يتحتّم إطلاق حملة لإضفاء مجد على العرش وإعادة تأسيس الميثاق الوطنيّ. بدأت تحقيقي من دون معرفة وُجهتِه، لكنّي لم أكن معترضاً على أيّ نتائج. واكتشفت أخيراً تاريخاً مثيراً للاهتمام يمثّل «النهب» ضمنه حدثاً مؤسساً. بدأت إذاً في رسم صورة رهيبة حول الطبقة السياسيّة الفرنسيّة في تلك الفترة التي وضعت المال في جيوبها». في السياق، يشدّد المؤلف على أنّ النفاذ للوثائق والأرشيفات التي ساعدته في توضيح أشياء مناقضة للرواية الرسميّة كان مُيسراً.
لكن المؤرخين التقليديّين غير مهتمين بهذا التاريخ الذي كشفه سابقاً الصحافيّ الاستقصائيّ والمُبتزّ جان بابتيست فلاندان، الذي صمت بعدما هَدَّدَ في كثير من المرات بكشف حجم الاختلاسات من «كنز القصبة». مع ذلك، لم يذهب جهده سُدىً، إذ يقول بيار بيان إنّه «أجبر القضاء، الشرطة والسلطة على التفاعل وكتابة العديد من الوثائق التي كشفها أحد المؤرخين بعد أكثر من قرن من موته، وأدت إلى تأليف الصفحات الأولى للجانب المظلم من احتلال مدينة الجزائر». بالعودة إلى القصّة انطلاقاً من تحقيق فلاندان الذي أيّده العمل التأريخيّ للبروفيسور مارسيل إميريت، والمراسلة بين سان ـــ جان ووزارة الخارجيّة البريطانيّة التي تشمل أقوال «الخزنادجي»، وهو كبير المسؤولين الماليّين في الإيالة، يُبيّن بيار بيان كيف زوّرت اللجنة الماليّة الفرنسيّة الأرقام من خلال الزعم رسميّاً أنّ الكنز لا يساوي إلّا 50 مليون فرنك في ذلك الزمن، وأنّه لا توجد وثائق من نوع ملفات الحسابات.
لكن جدير بالذكر أنّ محتويات الصناديق التي احتُفظ بها في الخزائن تُقدر قيمتها بنحو 250 فرنكاً، أي خمسة أضعاف الرقم الذي أوردته الرواية الرسميّة (يُضاعَفُ الرقم 50 مرّة للحصول على قيمته بالفرنك الفرنسيّ في 2001). لكن الكنز في عمومه، أي باعتبار الذهب والمال والجواهر والاحتياطات الموجودة في منازل القصبة، تقارب قيمته 4 مليارات فرنك. وقد أمكن اختلاس ذلك الكنز بفضل شبكات بنكيّة متشعّبة، وخاصّة بفضل الدور المحوريّ الذي لعبه المصرفي شنايدر، المسؤول الرئيسيّ عن تبييض الأموال التي سهّلت بخاصّة عمليات شركة «لا ميزون سيليير».
كان شنايدر يُحوّل ذهب الإيالة الذي يسرقه العسكريّون، الذين كانوا غير قادرين على نقل مسروقاتهم على متن سفن البحريّة الملكيّة، في مقابل فواتير صرف تسمح لهم بسحب أموالهم في باريس ونيس وجنوة وميلان، وغيرها من المدن. ويطرح بيار بيان، أيضاً، فرضيّة وجود مكافأة قُدِّمت إلى المصرفي من قبل «لا ميزون سيليير»، حيث سهّلت الأخيرة تولي شنايدر رئاسة شركة «فورج دو كروسو»، أي بعبارة أخرى ساهمت غنيمة مدينة الجزائر في تمويل قطاع صناعة الحديد الفرنسيّ بأكمله.
إذن، لم تسمح حملة الجزائر لفرنسا فقط بإسقاط ديونها المتوجبة تجاه الإيالة (التي كانت تموّل الجيش الإيطاليّ والجيش المصريّ تحت حكم نابليون بالقمح)، والتي لم تدفعها رغم قبول داي الجزائر بخصم 7 ملايين فرنك منها، لكنّها سمحت لها أيضاً بأن تضع يدها على أموال دائنيها خلال حقبة لم يكن فيها الاستعمار مطروحاً بعد.
بقي هذا التاريخ مسقطاً من الذاكرة العامة وبقي خطاب المؤرخين المشككين في الرواية الوطنيّة غير مسموع. لم يجرِ تداول عمل الصحافيّ بيار بيان، في فرنسا، إلا على نطاق محدود، كذلك برز نقاد له شككوا في الغاية من نشر مثل هذا العمل التحقيقيّ، وذهبت بعض الأقلام إلى حدّ اعتبار عمليّة النهب «تفصيلاً تاريخيّاً» على أساس أنّ كنز الداي مكوّن في الأصل، من وجهة النظر هذه، من مواد جرى السطو عليها خلال عمليات القرصنة البرابريّة للسفن المسيحيّة في المتوسّط. من الجليّ أنّ المجتمع الفرنسيّ لا يزال يعاني صعوبة في مواجهة ماضيه وتحمّل مسؤوليّته.