الجزائر | في الثاني والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 1956 اعترضت طائرات حربية فرنسية فوق البحر المتوسط طائرة مدنية مغربية أقلعت من الرباط نحو تونس، وأرغمتها على النزول في مطار الجزائر، في أكبر قرصنة جوية يشهدها العالم. سبب القرصنة الجوية أنّ الطائرة المدنية تحمل بين ركابها خمسة من قيادات «جبهة التحرير الجزائرية» التي كانت في حالة حرب ضد سلطات الاحتلال، كانوا في طريقهم للمشاركة في مؤتمر بتونس يتناول دعم الثورة الجزائرية وتعزيز حظوظ انتشارها دولياً.اعتُقل الخمسة، وهم المنسّق العام لـ«جبهة التحرير» محمد بوضياف، وحسين آيت احمد، وأحمد بن بلة، ومحمد خيضر، وهم أعضاء الوفد الخارجي للجبهة المقيم في القاهرة، والخامس هو مصطفى الأشرف، وهو المفكر والكاتب والصحافي الذي كان ضمن المجموعة في مهمة مستشار، وهو أكثرهم خبرة وأقدمهم نضالاً وأعلاهم مستوى. فمن هو هذا المفكر وما مساره وإسهاماته في الحركة الوطنية قبل الثورة وخلالها وبعد الاستقلال؟
ولد مصطفى الأشرف في السابع من آذار/مارس 1917 في بلدة سيدي عيسى الصغيرة في منطقة الحضنة المعروفة بسعة أراضيها وخصوبتها ويسر حال أهلها وتمسكهم بأصالتهم العربية الإسلامية. ينحدر من أسرة من الدرجات العليا على السلم الاجتماعي، تُقدِّر الثقافة والعلم. كان جده «باشاغا» وأبوه قاضياً شرعياً. تلقى مبادئ تعليمه الأولى في مسقط رأسه ثم انتقل إلى مدينة الجزائر ودخل المدرسة الثانوية في حي بن عكنون بين 1930 و1934. بعدها درس المراحل العليا في مدرسة الثعالبية في الجزائر، ثم «جامعة السوربون» في باريس، ما أكسبة تكويناً مزدوج اللغة أهّله للاطلاع على كنوز الثقافة العربية الإسلامية من مراجعها، وبالتالي الاستنارة بعلومها والتشبّع بقيمها من جهة، والنهل من الثقافة الغربية واستلهام روحها النقدية بالفرنسية، من جهة أخرى. وضعه المتميّز هذا مكّنه من عقد صلات صداقة وثيقة مع مثقفين عرب وأجانب كطه حسين، وعبد الرحمن بدوي، وجون بول سارتر، وماسينيون، وكاتب ياسين، وغيرهم، ممن لا يكاد يخلو أيّ مؤلف من مؤلفاته من الإشارة إلى آرائهم، وبوجه خاص كتابيه الأخيرين «أعلام ومواقع» و«القطائع والنسيان» الصادرين على التوالي في 1998 و2004.

العمل الوطني
انخرط مصطفى الأشرف في العمل الوطني مبكراً، فانضم إلى «حزب الشعب» الجزائري سنة 1939 وتولى عدة مهام تنظيمية، وتوجه خاصة نحو العمل التعبوي والدعاية الثورية. ومع اندلاع الثورة في تشرين الثاني/نوفمبر 1954، تولى مهام الاتصال والإعلام والدعاية للثورة، حتى صار أحد منظريها ومنظري حركات التحرر الأيديولوجيين ضد الاستعمار، إلى حين اختطافه.
ومع بداية مفاوضات إيفيان بين قياد الثورة والحكومة الفرنسية في 1961، أُفرج عنه لأسباب صحية، ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية في العيادة الطبية، ثم في أحد فنادق فرنسا. لكن الشبكة الأوروبية لدعم الثورة تمكنت من تهريبه إلى تونس، ليلتحق مجدداً برفاقه ويتحمل المسؤوليات، وساعد بآرائه وتجربته الوفد الجزائري المفاوض حول إنهاء الحرب. ومن موقعه كعضو في المجلس الأعلى للثورة، قدّم مصطفى الأشرف في حزيران/يونيو 1962 «برنامج طرابلس» الذي كان قد شارك في إعداده أمام المؤتمر العام للمجلس المنعقد في طرابلس ليبيا لرسم السياسة العامة للبلاد.
لعلّ مصطفى الأشرف من أهم المفكرين في الجزائر


بعد الاستقلال عام 1962، تقلّد مناصب سياسية ودبلوماسية عدة، وكان من الدائرة المقرّبة جداً من الرئيس هواري بومدين، حيث أسهم مع رضا مالك ومحمد الصديق بن يحيى وأحمد عكاش وآخرين في رسم معالم السياسة العامة التي انتهجتها الجزائر في الستينيات والسبعينيات. وكان محسوباً على التيار العلماني التنويري، لذلك حين عيّنه الرئيس بومدين وزيراً للتربية عام 1977 بغرض قيادة إصلاح شامل للمنظومة التربوية، ثار ضده الجناح المحافظ في السلطة وسلّط عليه أقلاماً إسلامية و«عروبية» اتهمته بالفكر «التغريبي»، ومنهم حتى من كفّره.

من الصحافة السريّة إلى التنظير الاجتماعي
قدّم مصطفى الأشرف للتراث الثقافي والسياسي والتاريخي الجزائري والعربي إسهامات عظيمة، لا تجد أثراً لها اليوم في المناهج الدراسية الجزائرية ولا حتى في الإعلام لأسباب تتصل بالميول العامة للمجتمع والنظام السياسي الحالي. ففضلاً عن تنشيطه للساحة الثقافية في الجزائر وتمثيله لها في العديد من الملتقيات والمنتديات الفكرية في الخارج، شارك بقوة في رسم معالم المشروع الثقافي الوطني لما بعد الاستقلال، وكان يرى أنّه «ينبغي أن يكون تطوراً منطقياً لذخيرة المعارف التي تراكمت لدى الإنسانية على امتداد تاريخها كله». فقد عُرِف المفكر مصطفى الأشرف بروح المقاومة التي برزت لديه من خلال نضاله المبكر بالقلم في العديد من الجرائد السريّة والعلنية الصادرة في الجزائر وخارجها في الفترة الاستعمارية، مثل: (Le Parlement algerien, _L'Action algerienne_L'Etoile algerienne _ ). وبعد الاستقلال تولى الإشراف على صحيفة «المجاهد»، لسان حال «جبهة التحرير الوطني»، وفي الوقت نفسه قدّم أسهامات في بعض المجلات الأجنبية، منها مجلة «الفكر» التي أسّسها المفكر والسياسي التونسي محمد مزالي، ومجلة (Les temps modernes) التي كان يشرف عليها المفكر الفرنسي جون بول سارتر. وفي هذه المجلة بالتحديد نشر في عام 1963 مقالةً عن مستقبل الثقافة الجزائرية، شبّه فيه مهمة ترقية ثقافة جديدة في الظروف الصعبة بـ«العملية الإكلينيكية» التي «ينبغي أن تجري من دون تردد وبإتقان محكم وباتخاذ إجراءات جذرية لا تسمح بأي تمجيد عاطفي للماضي».
وهو ما يكشف عن ميزات عُرِف بها المفكر في دراساته، حيث نجده حريصاً على تحرّي الصدق والموضوعية والتجرد إلى أبعد الحدود من الذاتية، وعلى الجرأة في أعقد المسائل وأخصها، حتى تلك المتصلة بالتاريخ السياسي المعاصر للجزائر، الذي يُعدُّ الأشرف أحد وجوهه. نقرأ مثلاً في كتابه «الجزائر: الأمة والمجتمع»: «مهما يكن من أمر، فإننا لم نكذب على التاريخ ولم نشوّه الظواهر الاجتماعية... فليس في عملنا هذا مجال للحقد أو للحساسيات، وليس فيه تحامل على أحد. إنّها فترة هامة سيكون لها، شئنا أم أبينا، تأثير كبير على مجتمعنا»، ليضيف في موضع آخر من مؤلفه: «على أن بعض المؤرخين الفرنسيين وبعض المفكرين عندنا، ممن يدّعي بأنه ارتقى إلى مرتبة الأيديولوجيين، كثيراً ما رأيناهم غافلين عن الحقائق اليومية بسبب نظرتهم السطحية واحتقارهم للشعب الجزائري، وكثيراً ما أهملوا الشهادات التي لا تتفق مع تصورهم لعظمة فرنسا أو لبطولة الشعب الجزائري. ولهذا لم يكد أحد منهم يولي انتباهه لمصير المجتمع الجزائري المهدد بالفناء والزوال، وما قام به ذلك المجتمع من عمل شاق وما بذله من جهود لتوحيد كلمته وللمحافظة على بقائه».
ووصف الأشرف ترحيل الفرنسيين لأرشيف الجزائر بعد وقف النار بالسطو، وجاء في الكتاب نفسه: «وقد كان مصير هذه الوثائق السلب والنهب على نطاق واسع، والنقل بعشرات الأطنان إلى فرنسا، بناءً على طلب فئة من هؤلاء المؤرخين»، مضيفاً: «وهكذا، فإن الاستعمار الذي ابتلي به تاريخنا القومي قد انتهى بعملية سطو كبرى هدفها استنزاف المصادر الرئيسية لهذا التاريخ أو تحريفها».
صدرت لمصطفى الأشرف أكثر من عشرة مؤلفات في الفكر الاجتماعي والتاريخ والنقد والإبداع الأدبي، منها: «أغاني الفتيات العربيات» 1953، «صداقة الرجال»، 1954، «الجزائر الأمة والمجتمع» 1965، «كتابات بيداغوجية عن الثقافة والتاريخ والمجتمع»، 1988، «الجزائر والعالم الثالث؛ اعتداءات ومقاومات وتضامن دولي»، 1989، «آداب الكفاح: محاولة تقديم، دراسة وتصديرات»، 1991، «أعلام ومواقع: مذكرات لجزائر منسية»، 1998، «القطائع والنسيان: محاولة لتفسير الأيديولوجيات المتأخرة للتقهقر في الجزائر»، 2004. هذا الكتاب الأخير الذي صدر قبل ثلاث سنوات من وفاته كان عبارة عن مجموعة دراسات أنجزها الأشرف في العقد الأخير من القرن الماضي، تناولت بصورة خاصة ملاحظاته واستنتاجاته حول بعض التفاعلات السياسية والاجتماعية والثقافية في الجزائر والعالم العربي والعالم الثالث بصفة عامة، كفشل مسارات التحديث والتعددية السياسية والأيديولوجيا الأصولية وظاهرة الإرهاب وبعض قضايا تاريخ الجزائر المعاصر، نذكر منها على سبيل المثال: «تاريخ الأفكار والتوازي السياسي» و«بلد مريض بدينه» و«القطائع والنسيان» و«الأصولية ومخاطرها». وقد منعت الدكتاتوريات في بعض البلدان، مثل جنوب أفريقيا وتشيلي ما بعد الانقلاب على الرئيس سلفادور الييندي، كتب مصطفى الأشرف الفرنسية والمترجمة، من التداول.
وبعد تفجير مبنى مركز التجارة في نيويورك، نشر سلسلة مقالات في مجلات عدة عن وقائع الإرهاب الدولي عبر العالم، أكد فيها أنّ تاريخ الإرهاب الدولي لا يبدأ من 11 سيبتمبر2001. وكانت هذه الدراسات مشروع كتاب جديد.
مصطفى الأشرف من أهم المفكرين في الجزائر، إنْ لم نقل أهمهم بمقياس صلة التنظير بالواقع. هو مفكر وصحافي وقائد موجّه ومحرّض على الثورة ضد كل ما هو بال وكابح للإنسان نحو الأفضل. جمع بين الملكة الفكرية والقدرة التنظيمية. عاش تسعيناً، قدّم خلالها أعمالاً فكرية يتجاوز مداها حدود الجزائر ومحيطها العربي إلى الانسانية قاطبة. أصدقاؤه، هم ثوار العالم بلا حدود، وقضاياه هي قضايا الإنسان، أما همومه، فهي كل ما يمنع هذا الإنسان من تحقيق مبتغاه... قراءة كتبه متسلسلة في الزمان تعطي الانطباع أنّه ولد أكثر من مرة.