الجزائر | الأربعاء 11 نيسان/أفريل 2018، 8:30 صباحاً. سقطَ الخبر: تحطُّم طائرة عسكرية على بُعد بضعة كيلومترات من مطار بوفاريك العسكري (جنوب غرب العاصمة). حصيلة الضحايا لا تزال مجهولة.مع مرور الدقائق بدأت الأخبار تتقاطر: الطائرة من نوع «إليوشين 76»، وكانت متجهة إلى تندوف مروراً ببشار جنوب غرب البلاد. لكن ظلّ عدد الرُكاب غير معروف، رغم أنّ المعلومات الأولية تقول إنّ عدد الضحايا في حدود 105.
حالة طوارئ عند «الحماية المدنية» والمستشفيات الواقعة في المنطقة، عشرات الصحافيين يتنقّلون إلى المكان، الطائرة تحطّمت في حقلٍ زراعي غير مأهول، الصور الأولى على التلفزيون تُظهر سيارات الإسعاف تُحيط بجسم الطائرة الضخم، محروقاً.
قبل مُنتصف النهار تتأكّد المخاوف: لم ينجُ أحد، الحصيلة النهائية تقول إنّه كان هنالك 247 راكباً إضافة إلى طاقم الطائرة المتكوّن من عشرة أشخاص، والجميع ماتوا داخل الطائرة. تُصدر وزارة الدفاع بيانها. سقطت السماء فعلاً، صباح يوم الأربعاء في الجزائر.
ضاعت الأسئلة حول سبب السقوط وحمولة الطائرة ونوعها، يضيع كل شيء وسط كل شيء في شبكات التواصل الاجتماعي، يتساءل الناس عن الحِداد متى سيُعلن؟ يصلُ قائد أركان الجيش إلى بوفاريك وتبدأ التعازي في الوصول من السفارات.
في الظهيرة تُعلن الدولة ثلاثة أيام حداداً على أرواح من ماتوا، يتساءل الناس لماذا تُعلنُ الجزائر ثمانية أيام حداد على موت فيدل كاسترو وثلاثة فقط على موت العشرات من أبنائها، ثم يُغطي الصمت كل شيء. تفرغ الطرقات، وعندما أخرج في المساء أرى أعوان البلدية وهم يُنكسون آخر أعلام شوارع الجزائر.
الموت الجماعي في بلاد يُوحّد الشعور العام، يُعزّز الرِفقة الأفُقية. هذا شيء معروف، لا شيء يُوحّد الأمم مثل الموت والشهيد، لهذا أصلاً خُلِقت فكرة العلَم، حتى يُرفع في النصر ويُنكّس حُزناً على من ماتوا. هكذا تنشأ الجماعات التخييلية.
تفقّدتُ ما كتبت الصحافة فلم أجد سوى نقل أخبار وبعض صور المُجنّدين والمدنيين الذين كانوا في الطائرة. ثم وقعتُ على تحقيق ينقل الصورة المؤلمة للعائلات التي جاءت من جهات البلاد الأربع نحو مدينة بليدة، ينقلها بالكلمات، تحقيق واحد كتبته دايخة دريدي لموقع «هفنغتون بوست ــ الجزائر»، كانت قد تنقّلت إلى مستشفى فرانز فانون بالبليدة ونقلت بكلمات قليلة كل شيء. لكن بعد هذا بدأ طوفان الفيديوهات والصور، قناة «البلاد» وبضع وسائل إعلامية أخرى أرادت أن تحصل على «السبَق»، أرادت أن ترى وجه الخوف، جيشٌ من الصحافيين هجم على عائلات الضحايا، عائلات تُصوَّرُ وهي شبه غائبة عن الوعي، أمهات وزوجات تحت الصدمة، البعض يبكي والبعض لا ينطق حرفاً واحداً. ودائماً الكاميرا والميكروفون مُوَجّهان من فوق، مثل طعنة. عائلاتٌ لا تعلم إذا ما كانت ستجد جُثث أولادها بين الأشلاء والبقايا المحروقة أم لا، لم تستوعب الصدمة بعد، كيف ننسى دموع الفتاة التي فقدت خطيبها الذي كان يُؤدي آخر شهر له في الخدمة الوطنية؟
ماذا ستسأل أماً فقدت ابنها؟ ماذا تُريد أن تعرف أصلاً؟ أحد الآباء الذين تمّ «استجوابهم»، رجلٌ خمسيني بعمامة بيضاء وملامح حادّة من الغرب الجزائري، انهارَ مع أول جملة ودفع بالميكروفون المُوجّه نحوه كمن يُبعِد خِنجراً وانفجر بالبكاء تحت ضوء الكاميرا. هل هذا هو السبَق الصحافي، هذا هو لونه وشكله؟
«أمور كهذه تحدث في صحافة العالم كلّه»، تقول لي صديقة، لكن ما نسَته هو أنّ الصحافة في الجزائر ارتكبت نفس الأخطاء خلال الحرب الأهلية في التسعينيات (وبعضها ارتُكب عن حُسن نيّة وقتها، حتى أنّه كلّف الصحافيين حياتهم في كثير من المرّات) ولم تتعلّم منها. دائماً تقف في صف «الضوء»، وليس في صف الناس، منذ أن كانت التلفزة الوطنية في الحرب تصِل صبيحة المجازر إلى قُرى منسية لم يطلع على أغلب أهلها النهار، مثل ذلك الفيديو الذي شاهدته ضمن شريط وثائقي أجنبي عن التسعينيات، والذي تسأل فيه صحافية طفلاً صغيراً ذُبِحت عائلته أمام عينيه «احكي لي واش شُفت...».
الشيء الوحيد الذي ظلّ عالقاً بذهني من يوم الأربعاء هو منشور صحافي في «فايسبوك»، كان قد تنقّل إلى مكان التحطّم وعندما وصل لم يستطع فعل أي شيء، وقف على بُعد مئة متر من الطائرة يتحدّث إلى رجل إطفاء، ووسط الكلام التحق بهما شرطي ودركي وشخص ثالث، طلبوا منه هويّته، ومن دون مقدّمات، انفجر الرجال الثلاثة بالبكاء. كانوا عائدين من حُطام الطائرة.