الرباط | اللغة فاشلة وعاجزة، إذا أردنا وصف التشفي السادي للمسؤولين المغاربة عن شهداء فيضانات الجنوب. لا تستطيع العبارة أن تتحمل كل هذا الألم لوحدها. نحن الآن في «الحي المغربي»: أي كلمات يمكنها أن تشفي من تلك الصورة المؤذية والقاسية التي كان البرلمان المغربي مسرحاً لها بعد الفاجعة؟ يمكننا أن نحاول الوصف على الأقل. البداية، وزير الداخلية، الذي حضر ببذلة وربطة عنق ليتحدث باسم الملك ويعلن عدالة حكمه، جاء الوزير ليتلذذ بمعاقبة الضحية. وثانياً، لدينا الوزير المسؤول عن الأمن الداخلي للمواطنين المغاربة، الذي بذل كل طاقته ليرمي اللوم على السائقين «الذين ذهبوا إلى حتفهم بكامل إرادتهم»، يوم الفيضانات...
ماذا سيقول التاريخ عن دولة قائمة على تحويل الضحية إلى جلاد، وكيف سيترجم هذا الهوس المرضي للعقل السلطوي العتيق بعقاب المواطنين المغاربة ــ حتى في لحظات احتضارهم ــ إلى كلمات صالحة للطباعة؟ على الأقل، فلنحاول الوصف.
لا تفيد شاعرية العزاء الجنائزي مع دولة لا تتخلى عن بيروقراطيتها حتى أمام الموت. لا يفيد الوخز الطارئ في إيقاظ الضمائر الميتة، التي لا تتحرك إلا لعزف كورال الوطنية الزائفة بشكل رديء. لا شيء يمكنه أن يزحزح العقيدة الفظة التي تؤمن بها الدولة وتدافع عنها بشراسة: دين يرفض الاعتراف بتقصيره في حماية الأرواح البشرية. لا يفيد البكاء الجماعي أمام جسد الوطن الذي انصرف إلى فراش الموت السريري. ستحشر هذه القصة الجديدة لضحايا «العقاب الإلهي» في زمن «العهد الجديد» في ذاكرتنا الناقصة.
لا حاجة لأن يكتب المغربي رسالة أخيرة. ستتكفل بلا شك شاحنات قمامة بنقلها في كيس أسود لدفنها في التراب. لا حاجة لأن نحمل هماً آخر في حياتنا فمصاريف الموت تافهة بالمقارنة مع تكاليف الحياة لتقوم الدولة بدفعها. يكفينا أن نحمل هذا الجبل الضخم من الشقاء وأن نمشي هذه المسافات الطويلة لنقف أخيراً في طابور مشاريع القتلى. فجأة، غطت الأخبار المغربية على عناوين النشرات الإخبارية في القنوات العربية والعالمية، صار المغرب خبراً عاجلاً، يسبق الحرب الأهلية في ليبيا والأزمة في سوريا وحماقات البغدادي في العراق. ولكن، أيها الأصدقاء، أطمئنكم: لسنا في حاجة إلى حرب أهلية في المغرب لنعيش الكارثة. الدولة، هنا، عاجزة عن توفير كسرة خبز وقنينة غاز للمنكوبين العائدين من الموت.
لا حاجة لأن نسأل «صفية» المغربية عن ماهية الوطن، صفية تعرف كل شيء، تعرف أن لا أحد سيلقي وروداً على قبور الموتى، تعرف أن أحداً لن ينقذ الغارقين، تعرف أن أحداً لن يحذر الذين يحتمون ببيوت آيلة للسقوط، وان لا أحد سيسعف المرأة الحامل بسرير رث في المستشفى الحكومي، لا أحد سيدفئ أيادي الأطفال المتجمدة في الجبال، تعرف أرواح أبناء المغرب. تعرف صفية أن كل شيء يحدث في المغرب، لا يقيم وزناً للإنسان، وأنه من الأفضل لنا أن نحفر قبورنا وننام.