في مسلسل «النار بالنار» (تأليف رامي كوسا وإخراج محمد عبد العزيز ــــ إنتاج شركة الصباح) نحن أمام عمل نادر الحدوث، وهو تحوّل الدراما إلى عمل وثائقي. نشاهد واقعاً وليس تمثيلاً. لهذه الدرجة تماهى المسلسل مع الواقع، فإذ بنا أمام نصّ حقيقي، مغرق في الواقعية بحبكته وحواراته. كأن رامي كوسا لم يكتب، بل نزل إلى أحد أحياء المدينة، واستعان بآلة تسجيل ونقل كلام الناس وقصصهم كما هي من دون تدخّل منه. كما أنّ طرح موضوع النزوح السوري بجرأة متناهية يُحسب لشركة «الصباح»، فهو مغامرة حساسة ودقيقة.يصوّر رامي كوسا لنا هذا الحيّ اليوم، بعدما طرأت التحولات الجذرية عليه على إثر قدوم النازحين السوريين إليه، فتتغير هويته ويذهب باتجاه آخر، ليشكل خطراً على حياة السكان الأصليين كل بحسب توجهاته، فعزيز (جورج خباز) من خلفيته السياسية يغلق بابه بثلاثة أقفال خوفاً من هذا الخطر، فيما جميل (طارق تميم) من خلفيته الأممية والاشتراكية، يشرّع بابه لإخوته بالإنسانية.
تقف مدهوشاً أمام «غولة التمثيل» كاريس بشار

ذكي رامي كوسا في اختزاله لبنان بهذا الحي، وذكي أكثر في تظهير واقع معاناة النزوح المتمثّل بشكل مكثف، ومركز، ومحلّى، في «غولة التمثيل» كاريس بشار. رامي كوسا أبدع في هذا النص كتابةً فيما أبدع محمد عبد العزيز في كتابته بالكاميرا مجدداً. برؤية واقعية ليس فيها فذلكات الدراما، يشعرك محمد عبد العزيز بأنّك تنتقل مع كاميرته في أرجاء الحي وتشاهد الناس بكاميرته كما هم. هي ليست مشاهد مفتعلة مع ديكور وملابس، هم ناس الحي على طبيعتهم. يتلصّص عليهم محمد عبد العزيز.
لقد حملنا عبر كاميرا الدرون التي اخترقت الحي فوق كابلات الكهرباء. تسللت بين الشرفات ومرت فوق السطوح وخزانات المياه لتصل بنا إلى داخل الحي. وهذا ليس شيئاً عادياً في الدراما، بل هو من عدّة شغل العمل الوثائقي. لقد تفّنن محمد عبد العزيز في إخراجه حتى إنّك لا ترى براعته، لأنك تعتقد بأنّك تشاهد واقعاً حقيقياً معاشاً. في الحقيقة هذا المخرج بارع ومتمكن جداً.
رامي كوسا أبدع في هذا النص كتابةً فيما أبدع محمد عبد العزيز في كتابته بالكاميرا


شخوص المسلسل نماذج حقيقية نجدها كل يوم أمامنا. ساعدت الحوارات الواقعية كثيراً في أن يكون الممثلون على طبيعتهم من دون بذل جهد إضافي في أدائهم، باستثناء القدير جداً عابد فهد بشخصية عمران، هو ليس شخصية عادية، حملها عابد فهد وعجنها ولاكها وبلعها وهضمها ليبدو عمران من لحم ودم يسير على قدمين. هذا الممثل خارق القدرات فعلاً. أما شخصية جميل، فكأن الكاتب يعرف طارق تميم جيداً، فكتبه شخصية وليس العكس. يعني أنّه لم يستعن بطارق تميم ليمثل الشخصية، بل استعان بالشخصية لتمثل طارق تميم. أداء عفوي جداً على طبيعته وسجيته. من يعرف طارق تميم في الحياة، يعرف أنّه «جميل»، يمتعنا بحضوره المشوّق.
كل الممثلين أجادوا بأدائهم فعلاً وتميزوا. إلا أنّه لا بد من أن تقف مدهوشاً أمام كاريس بشار. لا أجد كلمات تعبّر عن هذه «الغولة» رائعة بكل التفاصيل.
«النار بالنار» في حلقاته الأولى حتى الآن، شكّل علامة فارقة في الدراما. الشكر الكبير لشركة «الصباح» على هذا الإنتاج الراقي وعلى جرأة الطرح. سنتابع بقية العمل بشغف، إلا أنّ المكتوب يُقرأ من عنوانه. الشكر الكبير لكل من أنجز هذا العمل.
* ممثل لبناني

«النار بالنار»: س: 20:30 على LBC ـــ وMBC و«شاهد»