منذ اليوم الأول لشهر رمضان، يحافظ مسلسل «الزند – ذئب العاصي» على تصدّره المشهد الدرامي السوري الرمضاني، ليقدم مع كل حلقة جديدة فرجةً ممتعة، تتكامل فيها القصة والحوار مع أداء الممثلين والإخراج والموسيقى التصويرية، مشكّلة بمجملها تتويجاً حقيقياً لشراكة طويلة بين مخرج العمل سامر البرقاوي وبطله تيم حسن الذي عاد إلى الدراما السورية بعد سنوات عديدة انشغل خلالها بالتمثيل في أعمال مشتركة (سورية لبنانية) ومصرية.منذ حلقته الأولى، تمكّن المسلسل من خلق علاقة عاطفية بين شخصياته والمشاهدين. برع صنّاعه في شرح أبعاد الصراع الذي يتناوله وتطوّراته: مزارع بسيط قُتل والده وسلبت أرضه يعود بعدما اشتد عوده لاسترجاع حقه من إقطاعي ذكي يمارس كل الألاعيب الممكنة لتوسيع دائرة أملاكه وتحصينها وتحويل المزارعين إلى عبيد، في ظل سلطة أمعنت في الاستبداد، تعيش حالة تفكك وصراع داخلي.

تيم حسن في العمل

الحكاية التي تدور أحداثها في إحدى قرى حمص على مجرى نهر العاصي، في القرن التاسع عشر الميلادي خلال فترة الاحتلال العثماني، قدّمت منظوراً مختلفاً للأسلوب الذي اعتادت الدراما السورية تقديمه لتلك الحقبة عبر أعمال البيئة الشامية بشخصياتها الكركوزية (رغم وجود بعض الاستثناءات). جاء «الزنّد» أقرب إلى الواقع، بشخصيات حقيقية من لحم ودم، وصراعات على مستويات عدة، سواء داخل السلطة التي تتصارع أجهزتها، أو على المستوى الشعبي، ما خلق فضاءً من الصراعات المتشابكة والمتشعّبة أضفت على العمل طابعاً تاريخياً توثيقياً، إلى حد ما، كسياق لأحداث الحكاية. رهان صنّاع العمل على أصالته برز بوضوح عبر استعمال لهجة ساحلية محكية قد تكون ثقيلة على أذن المشاهد العربي، وعبر الموسيقى التصويرية (آري جان سرحان) والأغاني التي تضمّنها، سواء في شارة المسلسل (برهوم رزق وآري جان سرحان ومها الحموي) أو داخله مثل العتابا التي تعتبر جزءاً من الموروث الفني للمكان الذي تدور فيه أحداث المسلسل، وهي نقطة يبدو أن المشاهد اعتادها وألفها مع توالي الحلقات، في وقت أسهمت فيه خدمة «الترجمة» التي تقدمها منصة «شاهد» التي تعرض العمل في تجاوزها عند المشاهد العربي.

دانا مارديني في المسلسل

على مستوى النص، برع كاتبه عمر أبو سعدة في صناعة حكاية بسيطة – مركبة، كما برع في تقديم الشخصيات وخلفياتها، فخلق خطاً رئيسياً للعمل تدور حوله الأحداث، وخلق لكل حلقة مجموعة صراعات تتصاعد خلالها قبل أن تنتهي بحدث مفاجئ يخلق بدوره صراعات جديدة، الأمر الذي حقق سرداً مشوقاً للحكاية، وازن بين مضمونها العميق ومظهرها الشعبوي في ظل وجود شخصية البطل القادر على تجاوز الصعاب. كل ذلك على الرغم من وجود بعض الزلّات التي بدت مقبولة بداعي التشويق عبر حشر مشاهد في نهاية بعض الحلقات تنذر بحدث جلل قبل أن يتبين في الحلقة التالية أنه حدث طبيعي أو مجرد مزاح.
على مستوى التمثيل، لم يظهر، حتى الآن، وجود تفاوت كبير في الأداء بين الممثلين على مختلف المستويات، سواء الشخصيات الرئيسية للمسلسل، أو حتى الثانوية والكومبارس، وهي إحدى المشكلات التي تعانيها الدراما السورية حالياً. أمر يكشف عن جهد كبير بذله طاقم العمل بمجمله، بالإضافة إلى وجود أداءات لا بد من الإشادة بها، بدءاً من تيم حسن (عاصي الزند) الذي خرج من عباءة «الهيبة» وبطلها «جبل شيخ الجبل» ببراعة، مروراً بأنس طيارة (نورس باشا) الذي قدّم نفسه نجماً، ونانسي خوري (عفراء)، وليس انتهاء بدانا مارديني (نجاة)، وغيرهم.
تمكّن المسلسل من خلق علاقة عاطفية بين شخصياته والمشاهدين


اهتمام صنّاع العمل بكل التفاصيل ظهر أيضاً في الديكور والملابس المناسبة للحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، سواء حالة البذخ التي يعيشها «الباشا» في قصره، أو حالة الفقر المدقع في القرى. كذلك ظهرت لمسات المخرج، الذي قدم بشكل عام صورةً جذابةً تضمنت بعض المشاهد السينمائية، بالإضافة إلى حركة الكاميرا التي كانت ملائمة للأحداث،. ففي قصر «الباشا» الفخم، تجولت الكاميرا بحريّة لتظهر المساحة الكبيرة لهذا القصر، وانطلقت، أكثر من مرة، من الأسفل إلى الأعلى مظهرة المكانة التي يحتلها «الباشا»، في وقت كانت فيه الكاميرا مقيدة في المنازل الريفية الضيقة، تنتقل بين وقت وآخر من الأعلى مظهرةً الأسقف المهدمة إلى الأسفل حيث يعيش الشعب المسحوق.
النجاح الباهر الذي يحققه «الزند» (60 حلقة مقسمة على جزأين من إنتاج «سيدرز آرت برودكشن» - صباح إخوان) يقدّم نموذجاً على قدرة الدراما السورية على تقديم أعمال ناجحة، ويشرح بشكل غير مباشر أسباب نجاح أي عمل: نص قوي، فريق تمثيل جيد، إنتاج سخي، وإخراج متأنّ. نقاط يمكن اختصارها بأن نجاح العمل يتعلق أولاً وأخيراً بإيمان صنّاعه به ومحاولة إخراجه بأكثر صورة متقنة ممكنة، وهو أمر تعانيه الدراما السورية بشكل عام، ما أسهم بدوره في تمهيد الأرض بشكل كبير ليتصدر «الزند» المشهد الدرامي السوري المتعطّش للدراما الحقيقية التي كان يألفها قبل سنوات.

* «الزند – ذئب العاصي»: على «mbc دراما» (س: 17:00) و«شاهد» (قبل العرض التلفزيوني)