«لقد اكتشفت الطبقات الحاكمة أنّ السكّان السعداء والمنتجين الذين يتوفر لديهم وقت فراغ هم خطر مميت» (ديفيد غرابير)

في عام 2013، نشر ديفيد غرابير، عالم الأنثروبولوجيا الأناركي الرّاحل (الأخبار ـــ عدد 11 أيلول/ سبتمبر 2020) مقالاً قصيراً في مجلة إلكترونية راديكالية بعنوان «حول ظاهرة وظائف الهراء: صخب حول العمل» استخدم فيه للمرة الأولى التعبير المثير «وظائف الهراء أو بولشيت جوبس» لوصف ما بدا له أنه وباء من الوظائف التي لا طائل من ورائها، والمفتقدة للمعنى والقيمة.
انتشر المصطلح بسرعة بين المثقفين والقرّاء في أنحاء العالم، وتلقّت المجلّة طوفاناً من شهادات عاملين قالوا إنهم أحسّوا بأن مصطلح وظائف الهراء يصف بدقّة طبيعة عملهم. كان غرابير كأنّه قدّم تسمية انتظرها الجميع لظاهرة بدا أنّها واسعة الانتشار في بيئة العمل الرأسمالي خلال العقود الأخيرة: أشكال العمل المدفوع الأجر الذي لا طائل من ورائها أو غير ضروريّة لحسن سير العمل أو حتى سلبية التأثير، إلى درجة أن الموظف الذي يقوم بها لا يستطيع تفسير أو تبرير وجوده. ومن الجليّ أن لهذه الوظائف الهراء تأثيرات مدمّرة على صحة العمّال العقليّة والعضويّة، وتضاعف شعورهم بالاغتراب، وتجعلهم ــ وفق دراسات علميّة ــــ عرضة للإصابة بالاكتئاب مرتين أكثر من زملائهم الذين أحسّوا بأنّهم يمارسون أعمالاً تستحق التقدير أخلاقيّاً واجتماعيّاً ومهنيّاً.


وبالرّغم من أن تفسيرات غرابير للظاهرة لم تحظ بتأييد البحوث العلميّة، إلا أن الظاهرة نفسها لا يمكن تجاهلها، أقلّه وفق ما يقوله العمّال والموظّفون أنفسهم، إذ ينقل غرابير عن أحد الاستطلاعات من YouGov UK أنّ 37 في المئة منهم يعتقدون بأن وظائفهم «لا تقدّم أيّ مساهمة ذات قيمة حقيقيّة أو مغزى للعالم»، فيما خلصت دراسة فرنسيّة إلى أنّ هذا الشعور قد يكون وراء نسبة معتبرة من الاستقالات وترك العمل.
«سيفيرانس» (موسم أوّل من 9 حلقات متوافر على «أبل. تي. في. بلس») مسلسل ذكيّ لدان إريكسون، أخرجه بين ستيلر وأويفي مكاردل يلتقط فكرة وظائف الهراء، ويطوّرها في مزاج ساخر، ليقدّم نقداً رفيع المستوى لمجمل صيغة العمل في النظام الرأسماليّ من خلال منتج متفوّق شديد التميّز دراميّاً: ثيمة ونصّاً وأداء وتصويراً.
يسجّل «سيفيرانس» (بمعنى الفصل التام أو القطع) ملمحاً من أجواء العمل في «لومن للصناعات»، وهي شركة أميركيّة للتكنولوجيا الحيوية تضم قوة عاملة عالمية من مئة ألف موظف. يتتبع المسلسل إيقاع النشاط اليومي لفريق صغير من الموظفين في دائرة تدعى قسم «تحسين البيانات الكليّة»، وهي مهمة غامضة لا يدرك لا الموظفون أنفسهم ولا المشاهدون طبيعتها. تقتصر هذه المهمّة على الجلوس طوال اليوم أمام شاشات كمبيوتر (كأنّها من ثمانينيات القرن الماضي) واختيار بعض الأرقام من جداول متغيّرة، من دون أدنى معرفة بما تمثله هذه الأرقام. لكن رعب «سيفيرانس» لا ينتهي بعبثيّة المهام التي يتم تنفيذها، بل ينبع من اضطرار الساعين للفوز بالوظيفة في هذا القسم إلى القبول بالخضوع لعمليّة «الفصل»: إجراء جراحي يقسم ذكرياتهم إلى كيانين مستقلين تماماً عن بعضهما: الأول مخصص لوقت العمل داخل حرم الشركة أو innie، والثاني الذاكرة الأصلية للموظف التي تستعيد نشاطها بعد انتهاء يوم العمل أو outie، بمعنى أن الشخص في حياته الخاصّة لا يعرف شيئاً عن عمله، فيما هو أثناء دوامه لا يمتلك أيّ فكرة عمّن يكون في حياته الخاصة. وهكذا يخلق «الفصل» قوةً عاملةً سهلة الانقياد، وكادحة تعيش حرفياً للعمل وحده.
وكما هي الحال في كثير من الشركات الغربيّة الكبرى، تهيمن على الثقافة في «لومن للصناعات» فلسفة وأفكار مؤسسها الراحل (كير إيجان)، التي تحوّلت إلى ما يشبه ديناً رسميّاً يتضمن مجموعة ثابتة من المبادئ العقائدية والأخلاقية التي توجه سير العمل في كل الحالات. تؤكد هذه المبادئ على أهميّة العمل كقيمة عليا، وتصوّر الشركة كعائلة كبيرة، لكن الواقع أن وراء هذه الكليشيهات ديكتاتوريّة سلطويّة مريضة، تشغّل هيكليّة مُحكمة للسيطرة على سلوكيّات العاملين، وتمتهن كرامتهم وإنسانيتهم وتفرّدهم.
من خلال العمل مع المصورة السينمائية جيسيكا لي غانيه ومصممي الإنتاج فرانكون وجيريمي هيندل، يقدم المخرج ستيلر مقر «شركة لومن» كنسخة مبالغ فيها من بيئة عمل يومية ليست أكثر غرابة واصطناعاً من أي مبنى شركة كبرى في الغرب اليوم. هناك موقف سيارات لا نهاية له، وردهة رمادية وفولاذية هائلة يتوسطها نقش بارز ضخم للمؤسس، الذي يظل في خلفيّة ثقافة العمل دائماً، ومصاعد تعمل بالبطاقات الممغنطة تسمح للموظفين بالوصول إلى طابق محدد غامض تحت الأرض كأنّه متاهة لا نهاية لها من الممرات البيضاء الساطعة التي يتعيّن المرور بها قبل الوصول إلى المكتب المشترك الذي تجاوره كافتيريا صغيرة. الصورة خياليّة، لكن من دون أن يكون فيها أي شيء غير واقعي على الإطلاق.
في العالم خارج مبنى «لومن للصناعات»، يعتبر نشطاء وصحافيّون فرض الشركة جراحة «الفصل» على موظفيها موضع جدل أخلاقيّ وشكلاً من أشكال العبودية. إنه كتعاقد من الباطن مع أشخاص يرسلون نسخة بديلة من أنفسهم إلى العمل في قطع جذري بين أقنوميّ العمل والحياة على نحو يخنق أي إمكانية للاحتجاج أو التمرّد. ويُفهم أن مصالح كبرى تدفع باتجاه تطوير تجربة «لومن للصناعات» إلى ممارسة تمتد إلى كل المجتمع.
مع تقدّم الحلقات، تتطور تدريجاً محاولة تمرّد عمّالي داخل قسم «تحسين البيانات الكلية» تبدأ من تجربة غامضة الدوافع لموظف تمت إقالته - بيتي (يول فاسكيز) -، وقام بعمليّة جراحيّة لإزالة «الفصل» ما لبثت أن كلّفته حياته، لكنّها أطلقت مزاج ثورة انتشر بطرق مختلفة بين موظفي القسم الأربعة. ومن خلال دفع الفكرة إلى أقصى الحدود، يبدأ المشاهد - كلاً وفق خبرته في سوق العمل - بالتساؤل عن حدود الفصل بين العمل والحياة، وهل من الأفضل فعلياً الانفصال نفسياً عن الوظائف الحقيرة وما تسبّبه من عذابات. ما يخبرنا به المسلسل، في الواقع، هو أن الطريقة الوحيدة للهروب من اغتراب العمل هي إشراك نسخة بديلة منّا للقيام به نيابة عنا.
«سيفيرانس» ديستوبيا خياليّة، إلا أنها انعكاس شديد الواقعيّة، في صورة كاريكاتورية، للجوانب المظلمة من عالم العمل في الكوكب الرأسماليّ: مراقبة العمال والسيطرة على وقتهم وتدمير وعيهم، كذبة التوازن بين العمل والحياة، البيروقراطية وبروتوكولات العمل التي تتحوّل غرضاً بحد ذاته، العلاقة المضطربة سيكولوجياً بين الإدارة الوسطى والعمّال، تأثير التكنولوجيّات المتقدّمة على العلاقات الإنسانيّة، انتشار وظائف الهراء عديمة القيمة، والسعيّ إلى فرض ثقافة مركزيّة مصطنعة في إدارة «السعادة» داخل الشركة بهدف نهائيّ يخدم حصراً استمراريّة الإنتاج بأقل التكاليف الممكنة وتعظيم فائض القيمة الذي يستخلص من العمال، لا رفاهم قطعاً، بل حتى المديرين يُصرفون كما الكلاب عند التخلّص منهم لأيّ سبب. هذا كلّه ليس مجرّد خيال، بل أبعاد واقع معاش للملايين منا في العالم الحقيقي، وهو تحديداً ما يجعل «سيفيرانس» عملاً مثيراً للرّعب رغم كل هدوء المكاتب العجيب فيه.
لدى عرضه، لقي المسلسل شعبيّةً كبرى في الولايات المتحدة، ووضعت عشرات المقالات والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي في تفسير ثيمته الكليّة، والمعنى الثقافي وراء «لومن للصناعات»: هل هي تجسيد للشركات كما في الواقع المعاش، أم استكشاف لتأثير الجماعات (الطائفيّة والحزبيّة) على الأفراد، أم محاكاة رمزيّة لحالة المجتمع الأميركيّ المعاصر كلّه؟ وما سرّ الوظيفة العبثيّة التي يؤديها موظفو قسم «تحسين البيانات الكلية». وهذا الأمر سهّل مهمّة فريق العمل في التجديد لموسم ثان مع «أبل. تي. في. بلس» (سيبث هذا العام)، وربمّا مواسم عدة لاحقة.
رغم كل آليات السيطرة والتحكم، ظهر العمّال في الموسم الأوّل أقوياء للغاية


وبما أن الموسم الأوّل اختُتم بنهاية معلّقة من دون حسم الحكاية، فمن الممكن توقّع أنّ النجوم الذين لعبوا الشخصيّات الرئيسة فيه: آدم سكوت (دور مارك)، وباتريشيا أركيت (في دور هارموني كوبل – المديرة)، وجون تورتورو (في دور إيرفينغ)، وكريستوفر والكين (في دور بيرت من قسم التطوير والتصميم) وبريت لور (في دور هيلي) وتراميل تيلمان (في دور ميلشيك – المشرف على القسم)، وزاك شيري (في دور ديلان) وديشن لاكمان (مس كيسي مسؤولة الصحة النفسيّة) سيشاركون في الموسم الثاني، إلى جانب عدد من الوجوه الجديدة.
لا يعرف المراقبون أين تحديداً ستتجه القصّة تالياً، فالعمل غير مأخوذ عن نص روائي محدد، وإن زعم بعضهم بوجود تأثيرات ملحوظة لأعمال الأديب الأميركي فيليب ك. ديك، لكن وفق ما رشح عن فريق الإنتاج، فإننا سنرى في الموسم الثاني المزيد من أسرار عالم مبنى «لومن للصناعات»، وكذلك من أسرار العالم خارجه أيضاً. ويبدو أننا سنتعرّف أيضاً إلى الأسباب التي دفعت بقيّة الموظفين ـ باستثناء شخصيّة مارك التي غلبت على الموسم الأوّل ـ إلى القبول بالخضوع لجراحة «الفصل» من حيث المبدأ، وربّما استكشاف جذور عمليّة «الفَصل»: هل هي عسكريّة أم تجاريّة لا ندري بعد، كما مآلاتها مستقبلاً، بحثاً في فلسفة الذاكرة، وماهية الإنسان، ومعنى وجوده كعقل مقابل الجسد إلى جانب اختبار فكرة استعادة العمال للسلطة، التي تبدو صراعاً حتميّاً أبديّاً بين الطبقة البرجوازيّة الرأسماليّة والعمّال. رغم كل آليات السيطرة والتحكم، ظهر العمّال في الموسم الأوّل أقوياء للغاية بفضل تضامنهم وتوحدهم (يا عمّال العالم اتحدوا). ولعل التحدي في الموسم الثاني، سيكون في المحافظة على هذا التضامن الرّفاقيّ، ومواجهة جهود السلطة المنظّمة لبثّ الانقسام بين الصفوف. لكن لا تتفاءلوا كثيراً، فـ «سيفيرانس» في النهاية منتج أميركيّ.

* Severance على «أبل. تي. في. بلس»