«الطامة الكبرى أن تكون مؤسسة معنيّة ببناء القدرات ونقل المعارف «ملكيّةً أكثر من الملك»، إذ حتى القضاء الألمانيّ اعتبر، قبل شهرين تقريباً، أن فصل Deutsche Welle الصحافية فرح مرقة من الشبكة بحجة نشر تغريدات «معادية للساميّة»، إنما هو قرار غير قانوني». هذه الجملة وردت في إطار «بوست» نشره الصحافي والأكاديمي اللبناني ربيع بركات على صفحته الفايسبوكية أول من أمس (أعاد نشره في موقع «أوان ميديا» كمقال رأي بعنوان «عن علاقتي بـDeutsche Welle وإسرائيل») في إطار شرحه حيثيات «السجال» مع مؤسسة DW Akademie «الأكاديمية التي تمثّل الذراع التدريبية لقناة Deutsche Welle الرسمية الألمانية»، إذ فضّت الأكاديمية تعاقدها معه بدعوى «خطاب كراهية، ومعاداة للساميّة، وتحريض على العنف».
الغرافيتي الذي أثار حفيظة المؤسّسة الألمانية

شرح بركات كيف أنَّ المؤسسة الألمانية قرّرت قطع العلاقات التعاقدية معه بسبب تعليقين نشرهما على حسابه الفايسبوكي، إلى جانب صورة «غلاف» حسابه الشخصي (على الفايسبوك أيضاً) التي هي عبارة عن غرافيتي للمناضلة الفلسطينية المعروفة ليلى خالد مرسوم على جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة والذي بناه كيان الاحتلال بدءاً من عام 2002. إنها الحرية التي لا تكيل بمكيالين فحسب؛ بل بأربعة وخمسة وأكثر. حريةٌ قائمةٌ على القوة قبل أي شيء. وعن صورة الغرافيتي تلك، يشير بركات في مقالته: «في الأصل، عجيبٌ أن تلحظ مؤسّسة إعلامية ضخمة رسمَ الغرافيتي ورمزيّته، ولا تلحظ وجود الجدار، أي الحقيقة الموضوعيّة الصلبة الوحيدة في المشهد المذكور». وتابع: «يذكّرنا الغرافيتي، وليلى في قلبه، بصعوبة تصوّر عالم يدوم فيه كيان عنصريّ مهيمن إلى أجل غير محدّد، خصوصاً في ظلّ استحالة ابتلاعه كامل محيطه الجغرافي والديموغرافيّ. أدوات الترميز الأخرى على جدار الفصل تقول الأمرَ نفسه أيضاً: صعبٌ تصوّرُ دَوَام الرقابة على وصف الكيان بالفاشيّ، أو التأشير إلى مكامن الفاشيّة فيه. وصعبٌ الاستمرار بتطويع المصطلحات وإعادة تعريفها للتعمية على سياسيات هذا الكيان وممارساته، على حساب تسمية الأمور بمسمياتها».
أشار بركات إلى أنَه عمل سابقاً مستشاراً للمؤسسة في مشاريع عدة سابقة، لكنّ السجال تجدد هذه المرّة، إذ إنّ هناك أشياء تحدث في الخلفية في المؤسسة الألمانية المعروفة. كان الباحث اللبناني يعمل مع فريقٍ انتخبه «لإنتاج محتوى تدريبي حول الصحافة البيئية بطلب من الأكاديمية التي تمثّل الذراع التدريبية لقناة Deutsche Welle الرسمية الألمانية. وكان القسم الأكبر من عملي قد أُنجز، فيما توقيع العقد (بمفعول رجعي) كان تحصيلَ حاصلٍ لا يتجاوز الرسميّات، على اعتبار أنّي عملت بصفة استشارية مع المؤسسة في مشروعَين سابقين، وأن علاقة ثقة متبادَلة جمعتني بالعاملين في إدارتها الوسطى». لكنّ الذي حصل بحسب بركات، أنَّ DWA كانت «تنبش» في صفحته على الفايسبوك، إذ عادت إلى منشوراتٍ له نشرت منذ عام 2018 وهو فيديو لتظاهرةٍ نفّذها يهودٌ أرثوذكسيون يعادون الصهيونية أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك. استخدم ربيع إحدى الجمل التي نطقها المتظاهرون أنفسهم، وهي: «عارٌ عليكم، إسرائيل نازية». هذه الجملة وتحديداً كلمة «نازية»، أثارت حساسية الأكاديمية الألمانية. بوستٌ آخر أقامت المؤسسة بعده الدنيا ولم تقعدها هو بوست كتبه بركات يشير إلى الصهاينة ودولتهم بأنها «المشروع الاستعماري الفاشي». لا ترى المؤسسة الألمانية «فاشية» الصهاينة البتة، والمضحك أنّها مستعدّة أن تطرد أي شخصٍ يفكّر في ذلك حتى ولو نقل خبراً نشرته مئات وسائل الإعلام، ولم يكن أكثر من ناقل. بحسب بركات: «لتعبير الفاشيّة، بحسب الإدارة، خصوصيّة تاريخية. من هنا، فإن استسهال وصف إسرائيل بـ«الفاشية» - وفق منطق الإدارة - يعبّر عن استخفاف باستثنائية (exeptionalism) ما عاناه اليهود على يد النازيّة».
يذكّرنا الغرافيتي بصعوبة تصوّر عالم يدوم فيه كيان عنصريّ مهيمن (ربيع بركات)


مشكلة النقاش الذي تخوضه DW عبر منصاتها المتعددة أنه لم يعد «نقاشاً» داخلياً ضمن أُطرها «الخاصة» و«الداخلية» كمنصة عمل إعلامي «رسمية»، بل تعداه إلى ذلك ليصبح «نقاشاً» عاماً، رئيسياً، وفوق كل هذا «إطار» للعمل به من دون «مواربة»؛ ومن يرفضه يصبح مطروداً موسوماً بعدّة «توصيفات» من نوع «معادٍ للسامية» أو ربما حتى «فاشيّ». هي عادة الرجل الأبيض في مجمل صراعاته في أي حضارةٍ لا تسكن الغرب، «هو لديه مجموعة مفاهيم» هو صاحبها، وهو الوحيد الذي يفسرها ويمنطقها بحسب ما يريد، وحسبما تخدم مصالحه. لا أكثر ولا أقل.



«تصفية» مناصري فلسطين
في أواخر عام 2021، قرّرت قناة «دويتشه فيله» (DW) الألمانية الناطقة بالعربية، الاستغناء عن عدد من الموظفين العرب لديها بحجة «معاداة السامية». يومها جاءت خطوة المحطة بعدما نشرت صحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» الألمانية ولاحقاً صحف ومجلات أخرى، مقالاً «اتهمت» فيه مجموعة من الإعلاميّين، من بينهم خمسة عرب، يعملون في قناة «دويتشه فيله» (DW) الألمانية الناطقة بالعربية بـ«معاداة السامية». بناءً على المقال، قامت الصحيفة الألمانية بما يشبه عملية تجسس على صفحات السوشل ميديا للموظفين، وتمت تصفية العاملين على إثر تغريدات أو تعليقات قديمة لهم تتعلق بمواقفهم ضد «إسرائيل». تضمنت اللائحة موظفين لبنانيين من بينهم المدير السابق لمكتب بيروت لقناة «دويتشه فيله» باسل العريضي، والصحافي داوود ابراهيم، إضافة إلى مرهف محمود، وفرح مرقة وفرح سالم وغيرهم.
على مدار أيام عدة، توالت المقالات في الصحف والمواقع الألمانية التي شنّت هجوماً على مجموعة من العاملين العرب. في هذا السياق، تبلّغ المصروفون قرار الاستغناء عنهم عبر رسالة بريدية وصلتهم من القناة، من دون أن تشرح أو تبرّر أسباب الخطوة، مع غياب تام لأيّ كلام يتعلق بتعويضات المصروفين. أمر أدى إلى دخول الطرفين المتنازعين دهاليز المحاكم في ألمانيا، وربح بعض الموظفين دعواهم ضد القناة، ولا تزال القضية تتأرجح اليوم في القضاء بين الفوز والاستئناف.
في الإطار نفسه، لم تمرّ أشهر على صرف الموظفين من قناة «دويتشه فيله» (DW) الألمانية الناطقة بالعربية، حتى أعلنت الشبكة عن فتح باب الطلبات للتقدّم لموقع إدارة مكتب بيروت خلفاً للعريضي. واشترطت المحطة على المتقدّمين أن يكونوا «ضد شكل من أشكال التمييز والعنصرية ومعاداة السامية». وخلصت القناة في النهاية إلى تعيين محمد شريتح مديراً جديداً لمكتب DW في بيروت، وسط كلام حالياً مع توسيع المكتب ليتحول إلى مركز إقليمي.