إنه كنزُ هذا السنة على التلفزيون. «الإنكليزية» (The English ــ كتابة وإخراج الإنكليزي المعروف هوغو بليك ـ إنتاج «بي. بي. سي»، يُعرض على «بي. بي. سي. 2» و I Player) أعطته صحيفة الـ «غارديان» البريطانية 5 نجوم من خمسة، وتسابقت مواقع تقييم الأفلام والمسلسلات على إعطائه أعلى التصنيفات. إننا أمام تحفةٍ بصرية جميلة، قاسية بشكل خلاب، وفوق كل هذا لا تتوقف عن الإبهار ضمن منطق ومدرسة «الواقعية المدهشة» التي أرّخ لها كتّابٌ بقيمة غابرييل غارسيا ماركيز، وخورخي آمادو، وياسوناري كواباتا، ويوكيو ميشيما، حيث الواقع أجمل وأقوى وأكثر خيالاً من أهم الخيالات.إنها حكاية السيدة الإنكليزية، الليدي كورنيليا لوك (إميلي بلانت) التي تقرر الذهاب في رحلةٍ شاقة، خطرة، ومخيفة في آنٍ عبر الغرب الأميركي بحثاً عن الرجل الذي تعتقد بأنه تسبّب في قتل طفلها الوحيد. خلال تلك الرحلة، تتصادق مع أحد السكان الأصليين من قبيلة «الباوني» وهو كشافٌ سابق في جيش الكونفدرالية الأميركي يدعى إيلاي ويب (تشاسكي سبينسر). تتعقّد الأمور سريعاً، وتسيل الدماء بغزارة. مع بداية المسلسل، نجد كورنيليا ضحية مجرمين يريدون قتلها، سرعان ما يقررون إلصاق تهمة قتلها بايلاي. يكتشف إيلاي العملية ويفشلها، وينقذ كورنيليا قبل تعرّضها للقتل بثوانٍ على يد أحد المجرمين. يسأل إيلاي البطلة: كم جريمة قتل شهدت مذ وطأت أرض «أميركا»؟ تجيبه: «أربع حتى اللحظة خلال أسبوع». يعود ويشرح لها بأنّ الأرض التي هي عليها هي أرض اللصوص والقتلة، وأنّ لا أحد هنا كي تثق به. هنا تكمن جمالية هذا المسلسل المشغول بحرفةٍ عالية تذكر برائعة الأخوين كوين no country for old men، كما بكتاب الدكتور منير العكش القوي والقاسي «دولة فلسطينية للهنود الحمر». إنه مجتمعٌ مضر، سام، مؤذ بكل ما للكلمة من معنى. لا أبطال، ولا طيبون، حتى من تتوقع أنّهم كذلك، ليسوا كذلك. كورنيليا تقابل أناساً يظهرون طيبةً بالغة، فتترك لديهم أموالها الطائلة التي تحملها معها أينما ذهبت، نكتشف لاحقاً أنّهم أكثر قذارةً من القتلة المباشرين. إنهم قمامون، يعيشون على بقايا الآخرين وما يتركونه بعد أن يُقتلون. العلاقة المقززة بين السكان الأصليين والمحتلين الأميركيين، تتضح في علاقة البطل نفسه إيلاي بزملائه في الجيش الكونفدرالي الأميركي. إنهم يسخرون منه، يتعاملون معه بقرف، لا بل حتى ينظرون إليه على أنّه العدو. في الوقت عينه، لا يراه «إخوته» السكان الأصليون سواء من قبيلته أو من القبائل الأخرى كحليف أو حتى كأخ. هو خائن بنظر الجميع.
تظهر الشخصيات النافرة كقطاع الطرق المتناثرين هنا وهناك، والمجرمين والقتلة الذي يسكنون الأرض، حتى سكان الأرض الأصليين من قبائل تجدهم لتعرّضهم للقتل والإيذاء بشكلٍ دائم يتحوّلون لاحقاً إلى وحوش مشابهة لتلك التي تحتلهم. رغم كل هذا الفساد الذي تصل رائحته للأنوف، حتى ولو كان من خلف صورة، فإن الصورة هي سلاح هذا العمل القوية والمؤثرة: تارةً تختفي الكاميرا خلف ذئبٍ على تلةٍ مرتفعة تشرف على المشهد من بعيد؛ تارةً نقترب لنشهد تحلل جثةٍ، إنها مشاهد مقززة مقصودة. كل هذا ولا تنسى الكاميرا تصوير مشاهد أميركا الريفية الخلابة والساحرة: إنه غربٌ متوحش لكن حتى أقصى من أقصى فيلم عمل على تصوير الغرب ووحشيته. وبالعودة إلى القصّة، يمكن الإشارة إلى أنَّ واحدة من أقوى نقاط المسلسل كذلك هو الحوار بين أبطاله، سواء كورنيليا وإيلاي أو بين أيٍ من الشخصيات الأخرى: إنه حوارٌ فلسفيٌ عميق يشابه حوارات شكسبير في مسرحياته كـ «هاملت» و«عطيل».
أدائياً، لا يختلف إثنان على أنَّ البريطانية إيميلي بلانت إحدى أفضل ممثلات جيلها، ماهرة في تجسيد الشخصية التي تؤديها. تجهد بلانت في تقديم شخصيةٍ مليئة بالتفاصيل، إنها كتلة كاملة من التفاصيل، وحتى المتناقضات. يقع المشاهد في حيرةٍ حيال التعامل معها: إنها رقيقة للغاية، لكنها تصر على رحلةٍ فظيعةٍ مليئة بأهوالٍ لا تحصى كهذه. تقتل بوحشية، مع هذا فإنها تدمع وتبكي بحرقة على قيامها بذلك. تنقذ طفلةً رضيعةً، وترفض ارضاعها على الرغم من أنَّ الطفلة يمكن أن تموت. هذا التناقض أعطى الشخصية الكثير من العمق كما الواقعية. بدوره تشاسكي سبينسر يقدّم أداءً كبيراً يليق فعلياً بالدور؛ إنه شخصيةٌ من السكان الأصليين وهو على عادتهم: صامتون، يحبون أرضهم، وفوق كل هذا مقاتلون أشداء. هذا لا يعني البتة أن لدى الشخصية مشاكل كثيرة وتناقضات: إنه يخبر كورنيليا بأنه قد كان لصاً، وقاتلاً، وقتل نساء وأطفالاً وعجائز، وأن ذلك لم يوقفه سابقاً ولن يؤلمه ضميره على ذلك لاحقاً. لدى الشخصية هدفٌ وحيد أشبه بالحلم الذي لن يتحقق: أن يستطيع الحصول على قطعة أرضٍ يتملكها بعدما وعده الجيش بذلك. هو يعلم في الوقت نفسه بأنه لن يسمح له بالحصول عليها، كونه من السكان الأصليين. سبينسر يعطي الدور من روحه، خصوصاً مع تمثيله المتقن، وطريقة تكلمه الهادئة حتى في أكثر الظروف صعوبةً. إخراجياً، يمكن القول بأن العمل مسبوك بعناية فائقة، وأسبغ عليه المخرج بليك الكثير من الجهد والإتقان، واهتم بتفاصيل الضوء والصورة وزاوية الكاميرا كثيراً حتى ليشعر المشاهد بأنه أمام عمل سينمائي وليس مسلسلاً تلفزيونياً.
باختصار، أمام عشاق المسلسلات الكبيرة والمهمة مسلسلٌ ربما هو الأفضل هذا الموسم ليس لناحية القصّة فحسب، بل من جميع النواحي: الصورة، الحوار، التقنيات الشخصية، الأداء المتقن. إنه تحفة هذا الموسم.
---
* The English على «بي. بي. سي. 2» و I Player
---