حين أطلقته نتفليكس للمرّة الأولى عام 2016 ضمن إنتاجاتها الأصلية، حقّق مسلسل «ذا كراون» (التاج) شعبية واسعة في مختلف أنحاء العالم. دراما فخمة وحقيقية عن العائلة المالكة البريطانية، قدّمت قصة ملحمية تدور أحداثها في الماضي المنسي إلى حدّ بعيد، غير أنّها على ارتباط مباشر بالعصر الحديث. فالمرأة التي أصبحت ملكة عام 1952 كانت لا تزال على قيد الحياة وعلى العرش أيضاً.في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وصل الموسم الخامس من The Crown إلى المنصّة الأميركية الرائدة في مجال البثّ التدفّقي بعد انتظار دام عامَيْن، ليكون أوّل الأجزاء الذي يبصر النور بعد وفاة إليزابيث الثانية (1926 ــ 2022)، فيما يبدو أنّه حان الوقت لكي يصل العمل الجماهيري إلى نهايته لأسباب عدّة.
منذ اللحظة الأولى لعرضه، قسم العمل الجديد الرأي العام بشكل عمودي، بين من رأى أنّه «مملّ للغاية» وبين من اعتبر أنّه «أكثر تشويقاً من أي وقت مضى».
قبل أن يُزاح عنه الستار، أثار مسلسل بيتر مورغان عاصفة انتقادات حادّة، إذ اتُهِم بأنّه يتضمّن أكاذيب بشأن مرحلة ساخنة شهدها النظام الملكي البريطاني، طبعها خروج المشكلات بين الأمير تشارلز وزوجته ديانا إلى العلن. وفي ظلّ الضغط الشديد عليها نظراً إلى مرور شهرين بالكاد على وفاة الملكة إليزابيث الثانية التي تسلّم نجلها تشارلز الثالث العرش خلفاً لها، اضطرت نتفليكس للرضوخ وأدرجت في أسفل المقطع الترويجي لمسلسلها عبارةً توضح أنّه عمل «روائي» يستند على وقائع حقيقية، مع أنّها كانت ترفض باستمرار الإقدام على خطوة مماثلة.
تتناول الحلقات العشر من الموسم ما قبل الأخير أزمات العائلة المالكة خلال تسعينيات القرن العشرين، ومنها المقابلة التلفزيونية الصادمة للأميرة ديانا عبر «هيئة الإذاعة البريطانية» التي لمّحت فيها إلى خيانة تشارلز وعلاقته مع كاميلا باركر بولز، والطلاق بينه وبين «ليدي دي»، بالإضافة إلى تسريب محتوى مكالمة هاتفية حميمية و«ساخنة» جمعت بين ولي العهد آنذاك وعشيقته، وغيرها من الأحداث التي لا تزال تتسم بحساسية كبيرة. أمر وضع المسلسل في مرمى نيران شخصيات بارزة كالممثلة جودي دِنش، ورئيس وزراء بريطانيا في التسعينيات جون ميجور وغيرهما.
في المقابل، أصرّ صنّاع العمل، في معرض دفاعهم عن مقاربة المسلسل وكاتب السيناريو، على أنّ الرواية التي يوردها يجب ألا تُعتَبَر حقيقية، بل هي النسخة المتخيّلة «ممّا كان يمكن أن يحدث خلف الأبواب المغلقة خلال عقد بالغ الأهمية للعائلة المالكة». كذلك، دافع الممثلون المشاركون في المسلسل عنه، ومنهم الأسترالية إليزابيث ديبيكي التي تؤدي دور ديانا، إذ أوضحت أنّ «ثمّة مجالاً كبيراً متروكاً للتأويل».
أما جوناثان برايس الذي يلعب دور الأمير فيليب، زوج الملكة، فعبّر عن «خيبة أمل كبيرة» من زملائه الفنانين بعد التحفّظات التي أبدتها الممثلتان آيلين أتكينز وهارييت والتر اللتان أدتا دورَيْن صغيرَيْن في «ذا كراون». ورأى أنّ «الغالبية العظمى من الناس يدركون أنّه عمل روائي، فهم يشاهدونه منذ أربعة مواسم».
لكنّ العبارة التوضيحية التي أدرجتها نتفليكس لم تكن كافية لوضع حدّ للعاصفة، إذ إنّ هناك من ظلّ يتهم بيتر مورغان باستخدام المسلسل «وسيلةً للترويج لمواقف مناهضة للملكية».
إذا أردنا إنصاف المسلسل، يمكننا بدايةً القول إنّ الملكة إليزابيث الثانية الجديدة والأخيرة، أي البريطانية إيميلدا ستونتون، تقدّم أداءً لافتاً ومتمكّناً. تجسّد ستونتون دور الملكة في أواخر الستين من عمرها وهي تتعامل مع انهيار الصورة العامة للعائلة في التسعينيات. وتبدو أكثر ملاءمة للدور من سابقتَيْها الحاصلين على جائزة «إيمي»، كلير فوي وأوليفيا كولمان.
في مواجهتها للمحن، تجمع الملكة التي تقدّمها ستونتون بين الدفء والسلوك غير المقيّد بطريقة تجعلها أكثر ملكات العمل إنسانيةً. تبدو الممثلة مذهلة في لحظة قريبة من منتصف الموسم، عندما تسمح إليزابيث لدمعة بالانهمار بعد مواجهة امرأة كانت مقرّبة من الأمير فيليب. لكن على الرغم من ذلك، لا تمرّ إيميلدا ستونتون بالعديد من اللحظات الحيوية، ما يعود جزئياً إلى أن الموسم يركز على تشارلز (دومينيك ويست) وديانا (إليزابيث ديبيكي). لكن الأمر مرتبط أيضاً بكيفية كتابة مورغان للحلقات على أنّها حكايات أخلاقية قائمة بذاتها، مع التركيز على خلق استعارات معقّدة أثناء بناء الشخصيات.
لذلك، تتلاشى ستونتون في جوانب عدّة من العرض، إذ ليس لديها الكثير لتفعله مثلاً في حلقة عن الغرباء تربط بين محمد الفايد (سليم ضو) والخادم سيدني جونسون وديانا التي تصبح في ما بعد على علاقة عاطفية مع دودي الفايد (خالد عبد الله). ميل مورغان إلى الإشارات والرموز أقوى من أي وقت مضى في الموسم الخامس. ترتبط مقابلة ديانا الانتقامية مع الصحافي الغامض مارتن بشير، بطريقة متقنة، بمؤامرة جاي فوكس. وكلاهما يحاول تفجير قنابل تحت أرض العائلة المالكة.
لا يحتاج المشاهد إلى كثير من الوقت ليدرك أنّ الموسم الخامس لا يتمتّع بالحياة واللقطات الصعبة التي امتاز بها «التاج» في أحسن أيّامه. وهنا يأتي دور تشارلز وديانا. ويست وديبيكي، بطرق مختلفة، كلاهما جيّد في دوره. ويست ليس مثل تشارلز الذي نعرفه. إنّه أكثر جاذبية، ومن الواضح أنّه صاحب شخصية قيادية يتمتّع بحضور قوي على الشاشة. من ناحية أخرى، تقدّم ديبيكي أداءً دقيقاً بشكل مخيف لديانا جسدياً وعاطفياً، مجسدّةً إيّاها بطريقة مثيرة للاهتمام.
عمل مترامي الأطراف وأقل انضباطاً مما سبقه


المشكلة أنّ مورغان لم يكتشف هاتين الشخصيتين، ولم تكن كتابته لهما جيّدة أو مؤثّرة كما هي الحال بالنسبة إلى إليزابيث وفيليب، أو للأميرة مارغريت (تلعبها الآن ليزلي مانفيل) وعشّاقها المنوّعين.
صحيحّ أنّه يقدّم قصة تشارلز وديانا بذكاء درامي لا يخلو من الفكاهة، لكنّ الشخصيتَيْن المحوريتَيْن يحيطهما الغموض. إذ يلجأ مورغان إلى المفاهيم العاطفية السطحية نفسها عن الحب التي تلاشت وعدم مرونة الأسرة المالكة.
الملفت حقاً، من وجهة نظر تاريخية، هو كيف يبدو المسلسل خيالياً أكثر حتى أثناء انتقاله بقوّة إلى الذاكرة الحيّة. بالنظر إلى ما شاهدناه منذ الموسم الأوّل، فإنّ فكرة أن سوء السلوك المبتذل نسبياً لهذه الشخصيات والاتهامات المتبادلة التي يمكن أن تؤدي إلى إسقاط النظام الملكي، تبدو كأنها قصة من ماض بعيد ومختلف تماماً.
أحدث إصدارات The Crown يبدو الأضعف في السلسلة حتى الآن. فهو مسلسل مترامي الأطراف وأقل انضباطاً مما سبقه، يبعث على الملل في أحيان كثيرة. وفي الوقت الذي تجري فيه التحضيرات للموسم السادس والأخير، قد يكون من المفيد للقائمين على المشروع الاقتناع بأنّه من الأفضل ربّما الاكتفاء بهذا القدر!

* «ذا كراون» على نتفليكس