لا ندري كيف انخفضت المعايير لدى نتفليكس إلى هذا المستوى كي تقبل بإنتاج مثل هذه الكومة من الفضلات العضويّة المسمّاة «دوباي بلينغ». لكن الحقيقة الأكيدة أنّ مسلسل تلفزيون «الواقع!» هذا سيدخل التاريخ بوصفه سجلاً مصوراً لمستوى الرداءة والانحطاط وكل ما هو بشع في عصر الرأسماليّة المتأخرة بنسختها الإكزوتيك الأكثر تطرفاً على شاطئ الخليج العربي. يتابع المسلسل حياة عشرة من الأثرياء النرجسيّين من سكان دبي، إحدى الإمارات السبع المتصالحة التي صمّمها البريطانيّون قبل انسحابهم الشكلي من المنطقة عام 1971 لتكون رأس جسر دائماً للمصالح الغربيّة. مُنح هؤلاء حرية الإبداع ليكونوا ضحلين وسخيفين ومصطنعين قدر الإمكان بينما هم يحاولون تحطيم الرقم القياسي العالمي في استيلاد الحوار الأكثر تكلفاً وسفاهة. الذين يعرفون دبيّ، لن يحبّوا هذا المسلسل لأنّه مبتذل بكل شكل، ولا يعكس «واقع» حياة الرذيلة في الإمارة الأكثر تطرفاً بما لا يقاس، حيث أشخاص من فئة العارضات والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي يتلقّون أموالاً طائلة مقابل السماح لطبقة مسرفي الثراء بالتبرز عليهم وشرب بولهم والتمسح أمامهم بفضلات الإبل أو ما يعرف بـ «دبي بورتا بوتي»، ولا حياة الطبقة الثانية التي ــ وإن أصابت جانباً من الثراء ـــ فإنّها تدرك موقعها تماماً في النظام الطبقي الحديدي لدكانة آل مكتوم وتكتفي غالباً بالعيش الرغيد وجمع الأموال وتقبّل الإهانات تحضيراً ليوم انتهاء إقامتها في مدينة السّراب، ولا حياة 90 في المئة من السّكان ممن ينتمون إلى الطبقة الثالثة/ العاملة التي تشغّل المدينة وينبغي لها قبول الخضوع لأسوأ منظومة قروسطيّة مقابل تحصيل سبل العيش.
لكن من هؤلاء إذن الذين تقدّمهم نتفليكس لنا كصورة للمدينة؟ لا شيء تسمعه أو تراه عن هذه المدينة يحدث بالمصادفة. لقد أصبحت ماركة «دوباي» أي دبي كما تسميها الطبقات البرجوازية والمدّعون المتفذلكون، الطريقة التي يروّج بها حكام دبي مدينتهم إلى جمهور معولم، ومن ذلك خلال السنوات الأخيرة إنفاق المليارات لإظهار صورة عاصمة تبييض الأموال والدعارة في الشرق الأوسط على وسائل التواصل الاجتماعي كأنّها جنّة مثاليّة للعيش الباذخ، ففُرشت السجادة الحمراء لمن يعرفون بالمؤثرين، أي نخب لها متابعون من جنسيات معينة ومنهم بشكل مكثف أخيراً إسرائيليون وإسرائيليات، تستضيفهم في رحلات باذخة مدفوعة، بل تمنح بعضهم «تأشيرات ذهبية» أو إقامات لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد. والنتيجة صورة برّاقة مذهبة عن المدينة/ الإمارة تملأ صفحات الإعلام العالمي وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي وأحاديث نجوم المجتمع.

صفاء صديقي في المسلسل

مع ذلك، فإن كل شيء ليس تماماً كما يبدو على إنستغرام. فأغلب هؤلاء المؤثرين يمولون أنماط حياتهم الباذخة عن طريق بيع أجسادهم مقابل آلاف الدولارات في الليلة. وكلما كانت الشخصيّة أكثر شعبية على وسائل التواصل الاجتماعي – لا فرق هنا بين رجل وامرأة وما بينهما - كلما كان بإمكانها تحصيل بدل أعلى على شكل رحلات ترفيهية ومجوهرات وحقائب باهظة وبالطبع الأموال النقديّة (وبحسب تحقيقات نشرتها صحف بريطانية، فإن أيّ شخصيّة مؤثرة تتقاضى ما لا يقل عن 5 آلاف دولار في الليلة كحد أدنى، لكنها قد تحصل على 10 آلاف مع ازدياد شهرتها، أو حتى 20 ألفاً في عطلة نهاية الأسبوع خارج المدينة، وربما 75 ألفاً عند قبولها بلعب دور مرحاض بشري لبعض مسرفي الثراء). ومع دخل مماثل، للاستمرار في الغرف من الأموال، فإن هؤلاء – وغالبيتهم الساحقة تنحدر من أدنى مستويات الطبقة الوسطى في بلادهم – يقومون بلعب الدور الاستعراضي الباهت لحياة الثراء الهوليوودي كجزء من عدّة العمل اليوميّ. بقيّة الأجانب الباذخين هم إما أشخاص اغتنوا عبر العمل في تسهيل الصفقات القذرة لتبييض أموال المافيات العالميّة من خلال بيع العقارات واليخوت والاستثمارات البونزيّة أو إدارة بعض مؤسسات الدعارة العامة في المدينة كالملاهي الليلية وتجارة الماركات والإنشاءات الاستعراضيّة، أو من الأشخاص الذين هبطت عليهم الثروة بالوراثة أو بالزواج من أثرياء فاسدين. هكذا، اختاروا/ اخترن الإقامة في دبيّ بعيداً عن جذورهم المتواضعة في بلادهم. وبغير التفاهة البشريّة، فإن ما يجمع بين هذه المخلوقات هو عشق كسب الأموال السهلة وإنفاقها بسفاهة بالغة في أنساق تنافس استهلاكيّ متطرف موضوعه السيارات والمجوهرات، والقصور، والأزياء، والطعام، والحفلات.
نتفليكس اختارت من بين هؤلاء مجموعة أسماء معروفة في بعض أجواء دبي على الأقل ووضعتهم معاً لتمثيل ثماني حلقات وفق سيناريو فارغ من المضمون، بحوارات تائهة بين العربيّة والإنكليزيّة، غرضه الوحيد أن يكون خلفيّة لصور مبهرة عن عيش مثاليّ في جنّة دبي، مع تجاهل متغاب تام للجنس والفساد، أقنومي حياة المدينة وسرّ استمرارها: اللبنانية لجين عضاضة، 32 عاماً، «باربي» البلاستيكية عديمة الثقافة أو الموهبة أو التعليم التي تبحث عن شريك جديد بعد وفاة زوجها الملياردير السعودي العجوز وليد الجفالي قبل خمس سنوات تاركاً لها ثروة هائلة. غريمتها المؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي الهندية فرحانة بودي (36 عاماً) التي تعيش حياتها اليوميّة على إنستغرام؛ ربة المنزل البريطانية العراقيّة صفاء صديقي وزوجها رجل الأعمال الثري ذو الأصل الهندي فهد اللذان يخوضان معارك زواج تافه حول مساحة المنزل وإنجاب الأطفال؛ المذيعة التلفزيونية السعودية السابقة لجين عمران (45 عاماً) التي تحاول العودة إلى الشاشة عبر التمثيل وتشكو بمرارة أنّه في العالم العربي يكون للمذيعة تاريخ انتهاء صلاحية يرتبط حصراً بمظهرها وعمرها؛ الكويتي إبراهيم الصمدي (34 عاماً) مالك شركة للمتاجرة بالزهور والمندهش بسبب فشل الطائرة المروحية التي أرسلها لإحضار لجين أرملة الجفالي الثرية في إثارة إعجابها؛ زينة خوري، مليونيرة العقارات اللبنانية البالغة 38 عاماً التي تقول إنّها وصلت إلى دبي وفي جيبها 300 دولار فقط وترتدي في المسلسل شلالاً من أقراط الألماس والفساتين المذهبة والفراء الفخم وأي شيء من «فيرساتشي»؛ مقدم البرامج الإذاعية اللبناني الأسترالي كريس فادي (41 عاماً) الذي بالكاد يصدق الثروة التي حققها من اللاشيء وصديقته بريهان. ولاستكمال الدائرة، هناك أيضاً دي دجاي بليس وهو الاسم الفني لمروان برهام العوضي، دي دجاي إماراتي يعمل في أحد مرابع الليل الفارهة في المدينة وزوجته دانيا محمد (ديفا دي). ولك أن تتخيّل نوعية الحوارات المقعرة التي تجري بين هؤلاء الأشخاص، ونوعية همومهم وطبيعة العلاقات بينهم.
حاول مفكرون ومخرجون تصوّر حال الرأسماليّة في نهاية انحطاطها في أعمال روائيّة ودراميّة مثل «عالم جديد شجاع» و«ربات منازل يائسات»


لعلّ يأس دبي قد يدفعها لاستثمار مبالغ طائلة في نتفليكس لإنتاج عمل مماثل غارق في رداءة المحتوى رغم الصورة البراقة. فهذه الإمارة التي يمتلكها فعلياً محمد راشد بن مكتوم ليس لديها قيمة حقيقيّة سوى ماركتها، إذ لا تمتلك نفطاً أو غازاً، كما أختها أبو ظبي التي تقوم أيضاً بدور متعهد الحرب في مناطق لا يرغب الأميركي في إرسال جنوده إليها مثل أفغانستان واليمن وليبيا، واقتصادها قائم على تبييض الأموال والسمسرة والسياحة لا سيّما الجنسيّة منها رغم أن الدعارة ممنوعة شكليّاً. ولذلك، فهي تستثمر بكثافة في إدارة صورتها حتى أصبحت كما مغناطيس جذب لكل فئات المؤثرين في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى درجة أنّك تحس أن العمارة فيها والبنية التحتية مصممة تحديداً لتكون خلفيّة مخادعة لالتقاط مزيد من الصور. ولذلك فليس من مصلحة أحد من هؤلاء أن ينقل للناس عبر العالم حقيقة هذه الإمارة القروسطيّة التي يمتلكها رجل واحد ويديرها بامتياز كديكتاتور فاجر حيث تكفي تغريدة واحدة خاطئة ليختفي صاحبها وراء الشمس، فتسقط بشكل عجائبيّ أخبار الفساد المعولم والدعارة الدّولية وحتى المعاملة اللاإنسانيّة التي تلقاها نساء بن راشد وبناته على يده في لجّة ثقب أسود لا قرار له، بينما تضج الصحف ومواقع التواصل بحملات موجهة للترويج لصور الأمير الحكيم أثناء تكرمه بمنح طفلة بريئة جائزة تافهة للقراءة. وحتى المراجعات التي كتبها بعضهم لمسلسل دعائي سخيف ممول بالكامل من السلطات مثل «دوباي بلينغ» جاءت بغالبيتها الساحقة مشيدة بالعمل، لكن بالطبع فإن رائحة الدولارات تفوح منها بابتذال لا يمكن تمويهه على أبسط القراء معرفة بخلفيات المدينة.
حاول مفكرون ومخرجون تصوّر حال الرأسماليّة في نهاية انحطاطها في أعمال روائيّة ودراميّة مثل «عالم جديد شجاع» و«ويستوورلد» و«ربات منازل يائسات». شاهدنا أعمال تلفزيون (واقع) مغرقة في التفاهة مثل «جزيرة الحب» وحياة الكارديشيانيات. ويخبرنا إدوارد جيبون في كتابه «انحطاط الإمبراطوريّة الرومانية وسقوطها» عن معالم ذلك العفن الذي أصاب عاصمة الإمبراطوريّة وتمظهراته في أخلاقيات وسلوك نخبتها. كما كان القائد فلاديمير لينين قد كتب قبل أكثر من مئة عام متوقعاً بأن الرأسماليّة إذا وصلت إلى أعلى مراحلها، فإنّها لا تعود قادرة على توفير الرفاه والتنمية العامة للمجتمع، إذ ينخفض النشاط الاقتصادي المنتج فيما تتكاثر في المقابل الظواهر الاقتصاديّة غير الصحية والاستهلاك المبذر، ما يخلق تناقضات اجتماعيّة وتفاوتاً في نظم العيش على نحو تستعصي معه الحلول الواقعيّة من دون ارتكاب عنف. لكنّ الجليّ أن «دوباي بلينغ» تفوّق بإسفاف شخصياته وحواراته على كل وصف أو خيال أو تنظير، وسيكون سجلاً مصوراً يوثّق لمعالم من انحطاط عصرنا في نسخته الخاصة بمدن السلالات العربيّة، مروجاً له بصفاقة على مرآة نتفليكس المعولمة العريضة: انحطاطٌ تجاري وثقافي واجتماعيّ وأخلاقيّ علامةٌ على كارثة البشر التالية.

* Dubai Bling على نتفليكس