يسخر المسلسل المكسيكي «المحقق بيلاسكوران» على نتفليكس، من التصنيفات المعتادة للأعمال التلفزيونيّة. بشكل ما، هو مسلسل تحقيقات جنائيّة على النّسق الذي تتوقعه عند مشاهدة «شيرلوك هولمز» مثلاً، لكنّه أيضاً كوميديا قادرة على انتزاع الابتسامة عنوةً من أكثر الوجوه تجهماً، وحكاية إثارة تخطف الأنفاس، ونقاش فلسفي وسياسيّ واجتماعي بأدوات كاريكاتوريّة، وفوق ذلك كله ملحمة بصريّة تأخذنا بألوان قانية إلى صورة المكسيك خلال مرحلة السبعينيات من القرن الماضي بكل تفاصيلها في المعمار والأزياء والسيارات ومختلف تمظهرات الحياة الاجتماعية. هذه المسارات مع أداء مقتدر من لويس جيراردو منديز (يلعب دور بيلاسكوران وكنّا شاهدناه في «ناركوس: المكسيك» على نتفليكس أيضاً)، تتقاطع في فضاء واحد، لتمنحنا واحداً من الأعمال المبهجة القليلة التي استقطبتها منصة البث الأميركيّة هذا العام.نهج مسلسل «بيلاسكوران» (إخراج: غونزالو أمات، إرنستو كونتريراس، هيرومي كاماتا) كعمل مؤدلج/ مسيّس، يتخفّى بسخريّة وراء خليط هجين من الأنواع التلفزيونيّة ليس الأوّل. فقد سبقه إلى نجاح واسع الألماني «دوتشلاند 83»، ومواطنه كليو KLEO، و«كلارك» السويدي). لكن سرّ تفوّق «بيلاسكوران» عليها ـــ غير الرّوحيّة اللاتينية الطاغية ـــ متأت أساساً من البنية المتمكنة للعمل الأصلي الذي يستند إليه، وهي سلسلة روائية تحمل اسم المسلسل من إبداعات الروائي والمناضل المكسيكي باكو إغناسيو تايبو الثاني، الذي يعد رائد الرواية السياسية الجديدة في أميركا اللاتينية وأحد أهم كتاب أدب الجريمة باللغة الإسبانيّة.
في «المحقق بيلاسكوران»، يشن تايبو ـــ في المساحة التائهة بين الجدّ والهزل ــــ نقداً لاذعاً ضد الدّولة البورجوازية التي حكمت في المكسيك طوال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، مستندةً إلى منظومة من الفساد الشامل، والقمع البوليسي خارج القانون، والتناقض الطبقي السافر. ومن خلال تحليل الجرائم التي يحقق فيها، يروي على لسان شخصيّة هيكتور بيلاسكوران شاين، سلسلة من المآزق السياسية/ الاجتماعية التي واجهها المجتمع المكسيكي، وعايشها الكاتب ذاته عندما كان شاباً يناضل ضمن ثورة الطلاب في المكسيك عام 1968، بما في ذلك تلك المذبحة الشهيرة ضد الطلاب المحتجين في مكسيكو سيتي من قبل القوات الحكومية. يومها ألقت السلطات القبض على آلاف منهم، وقتلت المئات، وأخفت بلا أثر إلى اليوم ما يقارب ألفاً منهم وفق بعد التقديرات، ولم يحاسب أحد على هذه الجرائم قط، إلى جانب محاولات تفكيك النقابات بداية السبعينيّات، وأيضاً الصراع المسلّح بين السلطة والتنظيمات اليساريّة الذي استمر حتى الثمانينيات. لكن عبقريّة تايبو تكمن تحديداً في قدرته الاستثنائية على تمرير جرعات النقد السّياسي المعمّق تلك ضمن طرح أقرب للخفة والسخرية واللامعقول، بل حتى السخافة أحياناً بحيث تتوارى كل الخلفيّة التاريخيّة المؤلمة حدّ التلاشي بينما نغرق في تفاصيل «اللّحظة» الحاليّة المكثفة مكانياً وزمانياً بأشخاصها وألوانها. ندرك لاحقاً فقط أن تلك «اللحظة» ليست سوى زمن ممتد بلا توقف بين الماضي والحاضر والمستقبل معاً، وأن ما جرى في تلك الثواني العابرة هو نتاج تراكم تجربة تاريخيّة محددة، وأنّ ما سيجري هو بالضرورة نتاج خيارات تلك «اللحظة» على المستويات كافة.
تستند كل حلقة من حلقات الموسم الثلاث، إلى واحدة من الروايات الثمان التي كتبها تايبو، وتبدو كأنّها فيلم روائيّ مستقل تزيد مدّته عن الساعة، وفيها حكاية جريمة مختلفة يتولى بيلاسكوران حلّها، مع بقاء خط ذهبي متصاعد يربطها جميعاً مرتبط بشخصيّة المحقق وعلاقاته بالمقربين من حوله من الحلفاء (صديقته بولينا غايتان، وشقيقته إليسا/ إيرين أزويلا، وشركائه في المكتب الرخيص المستأجر)، وأيضاً الخصوم (قائد شرطة المدينة، ورجال أمن وأثرياء فاسدون)، إضافة إلى مشروبه الشعبيّ المفضّل «كيلي كولا».
منذ البداية، يروي بيلاسكوران الحكاية بنفسه. رجل غير سعيد لا في زواجه ولا في عمله يغرق في أزمة منتصف العمر. وفي لحظة تجلّ، عندما يطلب إليه مديره تلفيق قضايا لنقابيّين سعياً للتخلّص منهم، يقرر أن يغيّر كل شيء في حياته ليستعيد الإحساس بالمعنى والشغف. يهجر زوجته وبيته المريح وينتقل إلى شقة حقيرة في حي شعبيّ، ويلقي بالأوراق في وجه مديره، ويدرس بالمراسلة ليتأهل محققاً خاصاً (رغم أنّه يسمي نفسه محققاً مستقلاً)، ثم يستأجر مكتباً في بناية متواضعة مشتركاً، مع غوميز ليتراز (سيلفيريو بالاسيوس ) ــ وهو سباك صاخب ومتعفن وبخيل ــــ ليطلق مهنته الجديدة. وسرعان ما ندرك الطبيعة الدونكيشوتية للرجل: هو متهوّر وأخرق، يدفعه إحساس غامض للبحث عن العدالة وإعادة ترتيب أوراق العالم، مع عناد في البحث وراء الظاهر للمضي قدماً في كشف أسرار قضايا جنائية غالباً ما تكون موضع إهمال أو تواطؤ من أجهزة الشرطة الفاسدة.
ومع أنّ بيلاسكوران يحاول صنع اسم لنفسه من خلال حلّ هذه الحالات، بل يصل به الأمر للمشاركة في برنامج مسابقات تلفزيوني لأجل اكتساب الشهرة، إلا أنه مع ذلك يظهر كواجهة بطولة جماعيّة، وابن مخلص للطبقة العاملة، إذ يعمل دائماً مع من حوله كفريق متكامل، ويطلب المساعدة عندما يحتاج إليها، ويدعمه بلا سابق معرفة مواطنون عاديون من فقراء مكسيكو سيتي الذين يعملون باعة متجولين، أو موزعي صحف أو حتى عاهرات محترفات. كما تلعب النساء بشكل عام أدواراً مهمّة في حياته، لا سيّما عندما يضعف أو يتردد أو يتعرّض للهجوم، وتحديداً شقيقته الأستاذة الجامعية والناشطة المعادية للرأسمالية والأمركة التي تظلّ بوصلته، ومرجعيته الأخلاقية، وسنده اللوجستيّ، ومصدر تسليحه.
يطرح العمل المذبحة الشهيرة ضد الطلاب المحتجين في مكسيكو سيتي في الستينيات


في الحلقة الأولى، يتمّ التأسيس للشخصيّة ومن ثم يتطوع بيلاسكوران ـ من دون أن يطلب أحد منه ذلك ـــ للتحقيق في سلسلة جرائم خنق تستهدف النساء في مكسيكو سيتي، ليحصل له أول صدام مع الشرطة المحليّة الفاسدة. نجاحه في الكشف عن القاتل، يخلق له سمعة ممتازة فتقصده في الحلقة الثانية نجمة سينمائيّة مشهورة ليحقق في حادثة اختطاف ابنتها. وفي موازاة ذلك يحقق في مقتل زعيم نقابي. ولأنه أصبح مصدر إزعاج للسلطات، يتم في الحلقة الثالثة ترك جثة في مكتبه لتوريطه في جريمة قتل، ما يدخله في معركة سافرة مع قيادات متنفّذة تحاول التخلّص منه بكل الطرق، لينتهي الموسم على محاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة، تحضيراً للموسم الـتالي.
التفاصيل مهّمة في «المحقق بيلاسكوران» ليس فقط لاستكمال التحقيقات، ولكن أيضاً في أدوات السينوغرافيا البصرية والألوان، والغرافيكس، والموسيقى التصويرية التي تتظافر لإعادة خلق مزاج مكسيك السبعينيات. أحياناً، تبدو هذه كلوحات فوتوغرافيّة كافية بذاتها لإشعارنا بالبهجة حتى من دون ممثلين ولا أحداث، وتزيدها جرعة الجاز الثقيل جمالاً فوق الجمال. إن هذا العمل بكليته، من قصته الأساسية، إلى تعداد «الكريدتس» في النهاية، استخفاف بالوجود يمكن احتماله، وبسعادة وحبور تامّين.

* Belascoarán على نتفليكس