مهما شاهدنا من قساوة وعنف، لا يمكننا إلّا أن نتعاطف مع بطل مسلسل Sons of Anarchy، لأنّنا نعرف أنّه على حقّ ويحاول القيام بكلّ ما في وسعه من أجل التخلّص من ذاك العنف، ولو أنّ أخطاءه تجرّه إلى المزيد منه. هكذا ندرك أنّنا نشاهد اقتباساً حديثاً لمسرحية شكسبير «هاملت». لا شيء غريب هنا. مجرّد نادي درّاجات «هارلي ديفيدسون» أو كما يسمّى بالإنكليزية: MC. المسلسل فكرة كورت سوتر الذي شارك أيضاً في الكتابة والإخراج والتمثيل (إنتاج شبكة FX)، استوحى عنوانه من الاسم الذي يطلقه أعضاء النادي على أنفسهم وهو Sons of Anarchy أي «أبناء الأناركية» (ويترجَم خطأً إلى «أبناء الفوضى»، إذ إنّ الأناركية تعني اللاسلطوية لا الفوضى). نتعلّم خلال مواسم المسلسل السبعة، الكثير عن الأسرة والحبّ والأخوّة والصداقة، ولكن نتعلّم أكثر عن الخيانة وعمل العصابات والعنصرية وتواطؤ السلطات وفساد الأجهزة الأمنية وإجرام النظام الرأسماليّ. ببساطة، نتعلّم عن العالم الذي نعيش فيه.أسّس النادي جون تيلير مع بعض الأصدقاء بعد عودتهم من القتال في الحرب الكورية في ستينيات القرن الماضي. لكنّنا الآن في عالم ما بعد جون، إذ إنّه توفي في التسعينيات واستلم منصب رئاسة النادي صديقه وشريكه في التأسيس كلاي مورو (رون بيرلمان) الذي تزوّج أيضاً من أرملته جيما (كاتي ساغال) أمّ جاكس تيلير (تشارلي هانم) بطل المسلسل الذي يحاول كشف الحقائق فيما كلّ من حوله يحاول إغراقه في بحر من الأكاذيب والفوضى. بعد اكتشاف جاكس وجود رسائل كتبها والده قبل وفاته، يحاول الحصول عليها ليعرف المزيد عن والده ويفهم سبب الوفاة، وهو ليس بعيداً عمّا يحاول جاكس تحقيقه من حماية عائلته وإبعاد ناديه عن تجارة الأسلحة نحو أنواع تجارة قانونية. قيل لجاكس إنّ والده قضى على درّاجته بعدما اصطدم بشاحنة على الطريق، لكنّ والده يلمّح في رسائله إلى محاولة إقصائه بسبب نيّته إبعاد النادي عن عالم الأسلحة. فما الذي حصل فعلاً؟
السؤال الآنف هو ما يتسبّب في مشكلات جمّة في حياة جاكس كما في النادي. يتسلّم جاكس منصب الرئاسة خلال معظم المسلسل، لكنه يعتبر أنّ ذلك حصل بعكس إرادته وأنّه وُلد في هذه الفوضى لتأدية الدور المرسوم له. تقع توترات بينه وبين الجميع بمن فيهم والدته وزوجها، وزوجته الطبيبة الجرّاحة تارا نولز (ماغي سيف) التي تنجرّ أيضاً إلى حياة لا تعجبها، وصديقه المقرّب أوبي (راين هورست) ابن بايني ونستون (وليام لوكينغ) الذي كان صديق والده المقرّب وأحد المؤسّسين. يكتشف جاكس لغة العصابات التي وصل تهديدها إلى عائلته وأطفاله، لكنّه يكتشف أيضاً الغدر من داخل البيت، وقد بدا أنّ تهديده أكبر.
Sons of Anarchy ليس كغيره من المسلسلات في الغرب، إذ يذهب حيث لا تفعل عادةً، خصوصاً في الحقبة التي أُنتِج فيها، إذ تزامن عرضه الأوّل مع الأزمة المالية العالمية أواخر العقد الأوّل من القرن الحاليّ. عامل أُدخل فعلاً في سياق القصّة مؤثّراً في بعض الأحداث. في كلّ موسم، هناك عدوّ أو تهديد جديدَان، ولو أنّ هدف البطل لم يتغيّر يوماً وهو تحقيق السلام في مدينته تشارمينغ (مدينة وهمية في كاليفورنيا تقع بحسب المسلسل بجوار ستوكتون ولودي وأوكلاند)، كما إبعاد ناديه، بفرعه الأصليّ وبكلّ فروعه خارج تشارمينغ، عن الأعمال غير القانونية، وبناء عائلة كأيّ شخص عاديّ وحمايتها.
كما أسلفنا، نادي «أبناء الأناركية» لديه فروع أخرى في مناطق وولايات أخرى، وكلّها تقع تحت وصاية «ردوود الأصلي» أي نادي جاكس. لكنّ النادي ليس وحده، فهناك نادي «مايانز» (Mayans MC) الخصم، وهو نادٍ جميع أعضائه من أصول مكسيكية بعكس نادي جاكس الذي يتشكّل بمعظمه من ذوي البشرة البيضاء، إذ إنّ هذا ما يقتضيه العرف منذ الستينيات، ما لم يعجب جاكس أيضاً. العلاقة مع «المكسيكيين»، كما يطلق عليهم «أبناء الأناركية»، متقطّعة لكنّها بشكل عام هادئة بعد برود الحرب التي نشبت بينهما في التسعينيات وانتهت إلى اتّفاق على تقاسم «مناطق النفوذ» بحسب لغة نوادي الدرّاجات. يشاركهم بهذا التقاسم أيضاً نادي «ناينرز» (Niners) وأعضاؤه أميركيون من أصول أفريقية. تجدر الإشارة إلى أنّ كلّ نادي مستوحى من مرادف له حقيقيّ.
هذا الستاتيكو ليس من نسج خيال المسلسل، فهذا ما تفعله نوادي الدراجات في الواقع. كلّ نادٍ يتولّى التجارة والتهريب عبر الخطوط الواقعة ضمن نطاقه، وأيّ تجوال لدرّاج يحمل على ظهره شارة نادٍ ومنطقة أخريَين من دون علم مسبق للقائمين على المنطقة التي يوجد فيها، يعني أنّه سيتعرّض للضغوط أو التهديد أو حتى القتل في بعض الأحيان. هذه اللغة «العسكرية» تنسحب على كلّ نوادي الدرّاجات حول العالم. لذلك من الضروريّ أن يبقي «أبناء الأناركية» الأبواب مفتوحة مع الجميع، وخصوصاً «المكسيكيين». لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة، إذ إنّ الاتفاقات الجانبية هائلة، وقد يخضع أحد النوادي لقوّة أكبر منه من دون علم الآخرين، وهكذا. نرى في المسلسل مثلاً أنّ نادي «ردوود الأصلي» يروّض شرطة تشارمينغ ويرشيها ليبقى محميّاً منها ومن مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات (ATF). وفي بعض الحالات، يبتزّ عمدتها الذي يخضع للشركات الرأسمالية التي تبغي إنشاء مشاريع استثمارية على حساب أهالي المدينة وصحّتهم وأرزاقهم. ونرى تدخّل مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) وإغداقه الأموال على الـ«مايانز»، ونرى وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) تتدخّل في تجارة المخدّرات بنفسها وتحمي أحد أكبر الكارتيلات. ونرى عصابة «الإخوان الآريون» النازية المتطرّفة تبتزّ «الأناركيين»، ونرى منظمة «الجيش الجمهوري الإيرلندي الأصلي» (Real IRA) تتعاطى تجارة الأسلحة، ما يستدعي أن يأخذنا الموسم الثاني في رحلة إلى إيرلندا تُغيّر موسيقى المسلسل الافتتاحية (المشهود لكلماتها وألحانها) كي تتناسب مع «الجوّ» الإيرلندي.
نسمع في المسلسل أيضاً عن علاقات وتواصل مع «الروس» و«الصينيين» وحتى حركة «حماس»، إذ يدّعي المسلسل أنّهم يبيعون الأسلحة للكارتيلات ونوادي الدرّاجات، ولو أنّه لا يمرّر رسائل سياسية، بل يحاول قدر المستطاع إعطاء طابع «حياديّ» وواقعيّ بعض الشيء، بالإضافة إلى انتقاده اللاذع للسلطات والأجهزة الأمنية الأميركية وفسادها معتمداً لغة ساخرة. أحد أبرز تجليّات ذلك النقد هو طريقة عرض الفساد في السجون الأميركية وتحكّم كلّ من يمتلك نفوذاً في الخارج، بداخل السجن أيضاً. نرى كيف يتمّ الحكم بالإعدام داخل السجون «غبّ الطلب» وقبل أيّ محاكمة. هكذا، ينغمس الشرطيون المولجون بالحماية في الرشاوى، ويُقتل السجين على أيدي سجناء آخرين، ما يسمح بلفلفة الموضوع على أنّه «حادثة». ومن أشهر طرق «الإعدام» افتعال شجار في باحة السجن، ما يسمح بإطلاق النار من دون تحديد هوية القاتل، أو وضع السجين في غرفة مع عدد من السجناء قد يصل إلى أربعة، ويُعطى آلة حادّة؛ في حال تمكّن منهم يبقى على قيد الحياة. لكنّ ذلك شبه مستحيل وغالباً ما ينتهي به الأمر مقتولاً. نرى أيضاً كيف تُجهّز بعض الزنازين الانفرادية «المرتّبة» بحسب «الضيف»، وتكون في بعض الأحيان بمثابة «غرفة عمليات» يدير منها «جماعته»، خصوصاً في ما خصّ عصابة «الإخوان الآريون» التي نشأت أساساً في السجون (في الحقيقة وليس في المسلسل فقط).
علاقات وتواصل مع الروس والصينيين وحتى حركة «حماس»


نستنتج إذاً أنّه مسلسل متكامل، لا يستهدف فقط شريحة المعجبين بالدرّاجات النارية ولا سيّما «هارلي ديفيدسون» أو المعجبين بثقافة نوادي الدرّاجات عموماً، بل يتضمّن جرعات كبيرة من الدراما التقليدية والـ«أكشن» والجريمة وحتى الكوميديا في بعض الأحيان. أمر لم يعجب محبّي الدرّاجات كثيراً، ويُقال إنّ معظم من هم في نوادي درّاجات حقيقيةً، لا يعيرون المسلسل اهتماماً رغم أنّ بعض من مثّلوا في المسلسل ينتمون إلى تلك النوادي (أبرزهم ممثل دور هابي)، لكنّهم يقدّرون له تصويرهم على أنّهم أناس مثلهم مثل غيرهم، لديهم مشاعر وعوائل وأحلام، وليسوا مجرّد عصابات أوغاد كما درجت العادة في تصويرهم منذ منتصف القرن الماضي. يأخذ معظم النقّاد على المسلسل أيضاً دور جيما أمّ جاكس، ويعتبرون أنّ القوّة التي تمتلكها، خصوصاً في ما يتعلّق بقرارات النادي غير واقعية إطلاقاً. إذ يمكن القول إنّها تتدخّل بكلّ «شاردة وواردة»، ولو حاول الآخرون وضعها عند حدّها، ما يضفي عليها صفة «ماتريارك»، وهي المرادف المؤنّث لـ«بطريرك» (نسبةً إلى البطريركية الأبوية). كذلك يؤخذ على المسلسل تطويل حلقاته، إذ يصل طول بعض الحلقات إلى 80 دقيقة.
بشكل عام، «أبناء الأناركية» يقوم بكلّ ما هو متوقّع منه. قصّته متماسكة تأخذ في الاعتبار منذ البداية كلّ ما سيرد فيها لاحقاً، مهما تأخّر، لتضفي عليه صفة الواقعية. مسلسل يستحقّ المشاهدة ويمكن وضعه ضمن خانة الكلاسيكيات التي لا تُنسى ولا يجب، وما زال حتى اليوم حاضراً في الثقافة الشعبية في الغرب، من حيث إعادة عرضه المتكرّرة أو حتى «الأكسسوارات» المتعلقة به، والمسلسل الذي أعقبه واستمدّ سيرته منه معتمداً «مايانز» عنواناً له (راجع الكادر). قد يكون الغراب الذي نراه ونسمع عنه في كلّ ما يتعلّق بـSons of Anarchy حتى النهاية، أفضل وصف لما أمام المُشاهد من فضول وغموض وفوضى.

* Sons of Anarchy على Hulu وDisney+ وAmazon Prime Video



Mayans MC: ثورات ومؤامرات
في مسلسل Mayans MC، نحن في عالم ما بعد جاكس تيلير، بعيداً عن «أبناء الأناركية» وفوضاهم، لنستمتع بفوضى من نوع آخر عند «المكسيكيين» في سانتو بادري (مدينة وهمية جنوب كاليفورنيا). يبني كورت سوتر، كما باقي القائمين على العمل، علـى عملهم السابق ويأخذون في الحسبان أخطاءهم السابقة، فيتمّ تقليص عدد حلقات المسلسل الجديد مثلاً إلى 10 في الموسم بدلاً من 13، ويتمّ تناول المواضيع السياسية بعمق أكبر.
نحن هنا في حقبة دونالد ترامب، نشاهد باستمرار الحائط الذي بناه على طول الحدود مع المكسيك، وحتى موسيقى الافتتاح تشير إلى «حبل (الرئيس الرابع للولايات المتحدة جيمس) ماديسون» وإلى الظلم الذي يتعرّض له المكسيكيون في أراضي «أمّ المنفيّين» (أي تمثال الحرّية). الثوّار يحضّرون لانقلاب ضدّ الحكومة الموالية للولايات المتّحدة في المكسيك، ولديهم صلات مع نادي «مايانز» الذي بدوره على علاقة وطيدة بكارتيل مخدّرات «غاليندو» المستوحى من المسلسل السابق. والكارتيل بدوره على علاقة مع الحكومتَين المكسيكية والأميركية التي تحميه. طبعاً، تتغيّر العلاقات بحسب تبدّل موازين القوى، ويضاف فوق كلّ ذلك الدراما بين الأشخاص. إيزي رييس (جي دي پاردو) خرج من السجن الذي دخله إبّان مقتل والدته قبل ثماني سنوات، فدبّر له شقيقه أنجيل (كلايتون كارديناس) العضو في نادي «مايانز» فرصة في النادي. سرعان ما يثبت إيزي نفسه في النادي، رغم كلّ ما يدور من أحداث متعلّقة بحياته الشخصية أيضًا، إذ إنّ صديقته السابقة إيميلي (سارا بولغر) باتت زوجة ميغيل غاليندو (داني پينو) الذي ورث الكارتيل، وتتكشّف أمور عن والدَيه تتعلّق أيضاً بالكارتيل. أمّا شقيقه فلديه علاقة مع «أدليتا» (كارلا باراتا)، إحدى الثائرات المكسيكيات، تجلب لهما الفوضى. قد يكون هناك أوجه شبه بين إيزي وجاكس، خصوصاً من حيث سعيهما إلى حماية أحبّائهما، إلّا أنّهما مختلفان جذرياً، فإيزي لا يملك عاطفة جاكس ولا توقه إلى السلام، بل يستسلم للأمر الواقع ويقتنع بأنّه «شخص مؤذٍ» لن يتغيّر. نشهد في المسلسل حروباً متعدّدة، تصل إلى حدّ الحرب بين فروع «مايانز» أنفسهم وحتى بينهم وبين «أبناء الأناركية»!
يفاجئنا في Mayans MC الكثير من شخصيات Sons of Anarchy، بدءاً بمؤسّس نادي «مايانز» ماركوس ألفاريز (إيميليو ريفيرا) الحاضر في كلّ الحلقات تقريباً. نشهد أيضاً إطلالات متعدّدة لـ«تشاكي» (مايكل أورنستين) الشخصية الكوميدية في المسلسل السابق، كما أعضاء «أبناء الفوضى» هابي (دافيد لابراڤا) وتشيبز (تومي فلاناغن) وتيغ (كيم كوتس) وغيرهم. تظهر أيضاً جيما في لقطة من الحلقة الأولى. أمّا جاكس، فيكون حاضراً من حيث استحضار اسمه بين الحين والآخر. لكن إحدى أكثر شخصيات المسلسل السابق تأثيراً في المسلسل الجديد هو المحقّق الفدرالي لينكولن بوتر (راي ماكينون) الذي ينقل «سماجته» إلى بيت الأخوَين رييس لابتزازهما.
استقبلت الشاشة «مايانز» عام 2018، وعُرضت أربعة مواسم منه حتى اليوم، آخرها في العام الحالية، وقد جُدّد له موسم خامس يُعرض العام المقبل. باختصار، لا يكتمل «أبناء الأناركية» من دون مشاهدة «مايانز» بعده. استطاع «مايانز» أن يبقي على رونق المسلسل الأصليّ وأهمّيته، بل قد يكون تعدّاه في جوانب معيّنة، وهو أمر نادر جداً لعمل يأتي كتكملة لآخر قبله، خصوصاً عندما يكون الأوّل قد حقّق نجاحاً باهراً وبات جزءاً من الثقافة الشعبية.

* Mayans M.C على Hulu وDisney+