المشهد المرئي المجسد لخروج رئيس الجمهورية ميشال عون من القصر الجمهوري كان موحياً بالكثير. ثمة، في خلفياته، ما يؤشر إلى الصورة التي ستبدو عليها البلاد في المرحلة المقبلة: أخصام الرئيس ميشال عون سيكونون حريصين على تكريس تاريخ الثلاثين من تشرين الأول (أكتوبر) 2022 بوصفه امتداداً حاسماً لذكرى 13 تشرين الأول 1990، أي موعداً نهائياً لنهاية الوجود العوني. لن يكتفوا بأن يكون الرئيس وحده رئيساً سابقاً، سيذهبون نحو الزعم بأن التيار العوني بأكمله قد أضحى حالة سياسية ماضوية تقع في خانة الخطأ الجماهيري المألوف، جملة سلطوية معترضة انتهى مفعولها مع نهاية الفترة الرئاسية التي منحها الدستور لجنرال الرابية.في المقابل سيكون التيار، وحلفاؤه ربما، معنيين بتحويل مشهد الالتفاف الجماهيري الذي أحاط بالرئيس عشية مغادرته الرئاسة إلى عنوان لهويته السياسية في المرحلة المقبلة.
انسجاماً مع ما سبق، توازت المناظرات التلفزيونية التي شهدها يوم الأحد الطويل بين مناوئ للتيار البرتقالي يصوّب على تصنيفه فاشلاً، فاقداً للقدرة على الفعل، وبين مؤيد له يؤمن بمقولة أنّ العهد القوي ازداد قوةً، مع تكاثر الخصوم حوله، وتآمرهم عليه. ويجزم بأن الرئيس عون، وحده بين الرؤساء، خرج من ولايته الرئاسية محاطاً بهذا القدر من الاحتضان الجماهيري العفوي الذي لا يسعى نحو مصلحة فردية بقدر ما يعبّر عن انتماء حقيقي إلى خيار سياسي متجذّر. حتى تكاد أي محاولة لاقتلاعه من وجدان ناسه أن تصير نوعاً من العبث والوهم، وإضاعة للجهد والوقت.
منذ صباح الأحد الباكر، كانت محطات التلفزة على موعد مع الحدث، وأمكن للكاميرات أن تحظى بمادة دسمة، أمّنها حضور وافر في الساحات، وعلى امتداد الطريق الواصلة بين بعبدا والرابية. حضر التاريخ بقوة في وجدان المناصرين الذين نام بعضهم في خيام نُصبت على عجل على طريق القصر. «منذ متى أنتم هنا؟» سألهم مراسلو التلفزة، ليجيب كثيرون منهم بعفوية لا تخطئها العين: «منذ عام 1989». الإجابة تتعدى الدافع الحماسي لتحيل إلى قناعات راسخة: الفترة الممتدة بين التاريخين لا تكفي، بكل ما حملت من إرهاصات مرهقة، لتغيير الخيارات الحاسمة في وجدان الناس. والعقود الثلاثة المنصرمة هي مجرد فترة استراحة من الاحتشاد أمام القصر الذي حمل اسم الشعب طيلة مرحلة.
اكتفى الناس المتجمهرون أمام المقر الرئاسي من الإنجاز، وقد كلفهم خسائر فادحة، بكونهم قد مهدوا لقائدهم طريقاً آمناً نحو القصر الذي غادره مكرهاً ذات 13 تشرين حافل بتآمر الجميع. وافترضوا أنّ كل ما يتعين عليهم فعله، بدءاً من الآن، هو ببساطة متابعة المسيرة التي لم تصل إلى أهدافها بعد. هكذا يقتضي الالتزام، أما الوقت، والزمن نفسه، فيدخل في حساب الخاسرين. يمكن للمعترضين على موقف مماثل أن يناقشوه في السياسة، لكن التنكر لبعده المبدئي سيكون إجحافاً.
أنصار الرئيس المتجمهرون على طريق خروجه من السلطة جعلوا مهمة المحللين الاستراتيجيين المتدافعين نحو الشاشات صعبة. لم يكن سهلاً على هؤلاء المخضرمين أن يجدوا تفسيراً مقنعاً يبرر الوفاء الذي يحمله العونيون لرئيسهم وقد صار سابقاً. تلك صفة تتطلب معايير من طابع أخلاقي لا تتأتى عادةً لحملة الفواتير.
على شاشة «الجديد»، كان الباحث الإحصائي ربيع الهبر يحاول استقراء الدلالات الإحصائية ليخرج بنتائج مقنعة. بدت المحطة للوهلة الأولى كما لو أنها تتبنى خياراً علمياً في مقاربة التطورات. لكن مقدمة نشرة أخبارها المسائية، جاءت أقرب إلى عملية قصف عشوائي وفق قاعدة تقول بأن العيار يطوش وإن لم يصب. بدت المقدمة سمر أبو خليل في موقف لا تحسد عليه بينما تتلو ما أعد لها من آخرين، وتحاول تطويع قسماتها على إيقاع الكلمات الإنشائية المتفجرة. آلم المحطة أن الرئيس بدا في كلمته كما لو أنه يخطب متوجهاً إلى نبيه بري ونجيب ميقاتي وسهيل عبود ورياض سلامة. وكان بوسع مشاهد سيء النية أن يتفهم دوافع الحزن المرسومة على ملامح المقدمة، إذ ليس من السهل احتمال الفجائع المتأتية من استهداف الرموز أولئك. وعلى شاشة «إل. بي. سي»، جهد الباحث القانوني بول مرقص لاستدراج المعطيات القانونية، أو المفترض أنها كذلك، ليبني عليها استنتاجاته، فيما أفردت محطة mtv كادراتها الأربعة لالتقاط الحدث من زواياه كافة. الحيادية المزعومة التي حاولت mtv ادعاءها في التغطية النهارية سرعان ما كشفت زيفها مقدمة نشرتها الإخبارية المسائية. أقل ما يمكن قوله في البيان السياسي الذي أذاعته المحطة في بداية نشرتها المسائية، أنه كان يعكس افتقادها إلى المهنية بحدودها الدنيا. لم يكن أمام المحطة سوى التوجع من المكان الذي يؤلمها، أي من الحضور الجماهيري. ولذلك، لم تجد مناصاً من القول بأن الجمهور الذي أحاط بالرئيس أثناء خروجه من القصر الجمهوري، وواكبه في الطريق إلى الرابية، إضافة إلى الحشد الذي استقبله في المحطة الختامية... كل هؤلاء ببساطة كانوا من جماعة «حزب الله» الذي أوصل عون إلى الرئاسة الأولى قبل ست سنوات، ثم أمّن له سبل الخروج منها بغطاء جماهيري مستعار. هكذا قالت المحطة بكل تجهّم ملامح مذيع أخبارها ماجد أبو هدير، تاركة الخيار للمشاهدين بين أن يصدقوا أو أن يضحكوا من شر البلية الإعلامية.
الحشد الجماهيري أصاب الإعلام المناوئ بالإرباك وانعدام المهنية


نبيلة عواد، شريكة أبو هدير في النشرة/ البيان آثرت الذهاب نحو العمق، بلهجة خطابية. كان واضحاً أنها تدربت عليها طويلاً، لتحمّل رئيس الجمهورية وحده مسؤولية ما آلت إليه الأمور. كان يمكن التغاضي عن خطاب عواد، وإدراجه في خانة الخطابات السائدة، لولا الخطأ الذي حملها إياه كاتبه، إذ دفعها للقول بأنّ «البلد، ابتداءً من الغد، سيفتح صفحة جديدة مؤشراتها ستبرز في الاقتصاد، وفي سعر صرف الليرة». هكذا صار المشاهد ملزماً باستعادة الصلة الراسخة التي تربط المحطة التلفزيونية بحاكمية مصرف لبنان، عبر حاكمه رياض سلامة، والتنبه إلى الدور الذي لعبته المحطة في التأزم النقدي بغية الضغط على العهد وتحميله مسؤولية الانهيار.
من جانبها، ظهرت محطة nbn مضحكة، إذ حاولت معاقبة جمهور الرئيس بحرمانه من نعمة الضوء المنبثقة منها، لتحصر تغطيتها بمحيط القصر. الجمهور وحده كان سيد الموقف على امتداد لحظاته التاريخية الحاسمة.
بدت الشاشات مربكة، كما لو أنها كانت تنتظر الحدث لتستثمر في تداعياته، وكان الظن أنها مربحة، لتفاجأ بالحشود الجماهيرية وقد قطعت عليها طريق الصخب بهدوء لافت.
ذلك الإصغاء العميق للصمت الذي تميز به المحتشدون كان نادراً، لم يشهده لبنان وشاشاته ووسائل إعلامه منذ زمن طويل.