بقدر لافت من المهنية، يقابله إفراط غير مبرر في الاستعراض، عاد الثنائي رياض قبيسي وهادي الأمين ليقدما برنامجهما: «يسقط حكم الفاسد». (التاسعة والنصف من مساء الجمعة الفائت على شاشة تلفزيون «الجديد»).يُسجل للصحافيَّين الاستقصائيَّين قدرتهما على تذخير لائحة الاتهام المقدمة من قبلهما عبر اختراق هاتف أحد المستهدفين في التحقيق، وهو متصل بعاصفة فساد هائلة ضربت وزارة الاقتصاد إبّان فترة دعم السلة الغذائية الذي خرجت به حكومة الرئيس حسان دياب. يومها ألقى وزير اقتصادها راوول نعمة باللائمة العاتبة على المواطنين الذين لم يتوجهوا نحوه بكلمة شكر كان يرى أنها مستحقة. نعمة نفسه رفض الرد على أسئلة البرنامج بالرغم من كونها مشروعة. ثمة جرائم معلنة ارتكبت تحت شعار الدعم المفترض، تولاها تجار، فيما مهدت لها، وساهمت في إنجازها، نخبة من القيّمين على الوزارة ذات الدور المفصلي في مرحلة الانهيار القائمة راهناً. في المقابل، يؤخذ على قبيسي والأمين ارتباكهما في رسم الحدود التي شاءا لحلقتهما أن تدور في إطارها: لم يكن واضحاً ما إذا كانا يهدفان إلى «إدانة» المجموعة التي التقطتها شباك عملهما الاستقصائي، وهو أمر متاح ومشروع وفقاً للمعطيات المتوافرة، أم أنهما كانا يطمحان فقط إلى إطلاق شرارة الاتهام ليتلقّفها أصحاب الشأن من أجهزة أمنية وسلطات قضائية، امتداداً إلى الرأي العام الذي يُفترض أنه صاحب الكلمة الحاسمة في هذا الإطار. أمضى الثنائي الوقت المخصص لحلقتهما بين كرّ وفرّ. كانت أصواتهما تتصاعد تارة مهددين بكسر الأيدي المرتكبة الآثمة، ثم تخفت تارة أخرى، فيميلان إلى وضع الاختلاس الحاصل في خانة وجهات النظر التي لا يسعى الصحافي الرصين إلا أن يحترمها في انتظار إدانتها من قبل من يملك الحق في ممارسة تلك الإدانة.
شكر الله معلوف، أحد تجار الأعلاف، وجرجس برباري، مدير عام مكتب الحبوب والشمندر السكري في وزارة الاقتصاد، ومحمد أبو حيدر، مدير عام وزارة الاقتصاد، وسيمون جبور، رئيس مصلحة التجارة بالإنابة في الوزارة، وبرونو زهر، مستشار الوزير نعمة، وغيرهم آخرون، بدوا ضالعين، بحسب البرنامج، في عمليات اختلاس للمال العام، عبر آليات منظمة استغلت ثغرات فادحة انطوى عليه نظام الدعم. المفارقة أن الحلقة استشهدت بالكثير من المواقف والتصريحات الموازية التي أطلقها أركان السلطة اللبنانية، من رئيس الجمهورية والمجلس النيابي، وأمين عام «حزب الله»، ورئيس «التيار الوطني الحر»، والنائب وائل أبو فاعور، ووزير الاقتصاد الحالي أمين سلام، لكنها غفلت عن إيراد اسم حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، مكتفية بإبراز واجهة المبنى عند الحاجة، بالرغم من كون المصرف هو مصدر الأموال المختلسة. في الوقت الضائع، اكتفى قبيسي بالقول هامساً إن مصرف لبنان ليس بريئاً من القضية المثارة كونه لم يفعّل خاصية «حدود السيولة» وفقاً لمقتضى صلاحياته.
تغافل البرنامج عن ذكر حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، مكتفياً بإبراز واجهة المبنى عند الحاجة


مجموعة رسائل صوتية معبرة، وفائضة عن حاجتها من الوضوح، وضعتها الحلقة في متناول مشاهديها، تدور في جزئها الأول حول الصيغة التي يعتمدها معلوف لتدبيج فواتير مزدوجة (مزورة) في استيراده لبعض المواد الزراعية من تركيا، حيث أمكن الإصغاء، بغير التباس، إلى حواره مع تاجر من تركيا، يدعى أيمن الحجاوي، كان مخصصاً للتفاهم على الصيغة المثلى للفاتورة المركبة: هل تأتي من تركيا محملة بمبالغ إضافية، أم تُعاد صياغتها في بيروت لتكون متخطية لأرقامها الحقيقية، بما يمكن التاجر من استلام قيمتها المزيفة من مصرف لبنان وفق سعر الدعم، وهو ما يعني سرقة موصوفة لأموال المصرف التي هي أموال المواطنين؟ أما الجزء الثاني من الرسائل فيتمحور حول استغاثة المعلوف بمدير عام الاقتصاد محمد أبو حيدر لمساعدة أحد الأشخاص، يصفه هادي الأمين بالمهرب، في ترخيص صهاريج يملكها. كما يتواصل معلوف مع مدير مكتب الحبوب والشمندر السكري في وزارة الاقتصاد، جرجس برباري ويطلب منه العون للحصول على موافقة الوزير في تخليص بضاعته المستوردة، فيرد عليه المدير العام أن قضيته عالقة لدى رئيس مصلحة التجارة سيمون جبور، الذي «كبر كرشه، بعدما صار لديه من يدس له الأموال في جيبه، وهو يعيق مصالح المعلوف، ويتهمه بتهريب بضاعته إلى سوريا». يغضب التاجر شاتماً الوزير والموظف، مهدداً باللجوء إلى مجلس شورى الدولة بعد قدومه إلى لبنان، وفور انتهائه من زيارة رئيس الجمهورية.
الموقف، على مأساويته، لم يخل من طرافة: أسمع الأمين لمحمد أبو حيدر جزءاً من رسالة صوتية وجهها إليه شكر الله معلوف يفتتحها بالقول: «إلك غرض عندي صرلي مرتين تلاتة بجيبو معي وبرجع بردو». علق المدير العام مبتسماً: «إنه يقصد بعض الخوخ من أول موسم». لكن الصحافي تابع الجزء الثاني من الرسالة الصوتية حيث يقول معلوف: «هودي ملف إلك أنت.. عرفتو أيوه منن». حينها يستدرك أبو حيدر قائلاً: «الأمر يتعلق بمعاملة للرجل».
اللافت هو الكلفة المرفوعة بين تاجر الأعلاف والمديرين العامين. نرى أبو حيدر يحرص، في الرسائل الصوتية المتبادلة بينهما، على مخاطبته بكنيته المحببة: «حبيبي.. أبو فريد؛ فيما يصفه أثناء الحوار الصحافي بالمختلس، ويضيف: «إذا كان لـ «هذا التاجر» أموال في حسابه في مصرف لبنان يمكن الحجز عليها».