في البدء يأتي الاسم. هذا المقال أخذ تعريفه لأننا نعرف ما هو المقال، كما أنه أيضاً، وبدوره، مُوقَّع باسم. ما نعرفه حق المعرفة هو الذي نطلق عليه أسماء، وكل ما عدا ذلك، فله من الشعر نصيب. يرتبط الاسم والمعرفة ارتباطاً لزجاً يكاد يكون محركاً للتاريخ، أو كأنه محفّز للمنطق، فما تلبث أن تكتمل المعرفة بشيء حتى يُطلَق اسم على ما بات معروفاً، وما تكاد تسمع باسم شيء حتى تلهث لمعرفته. يظهر تدريجياً للاهث وراء المعنى مسألة عصيّة على الظن، أن الاسم يشكل أكثر من مجرد كلمة ويدنو من أن يكون فعلاً. والحال أن الاسم يشغر وظيفتين معاً: فهو بؤرة تعرّفٍ ومحط تعريف. السؤال الملحّ عند الاستجواب، والجواب المنتظر عقب الاستدعاء، وهو ما لا يمكنك الاستغناء عنه لغوياً، حيث، وفي أبسط الأحوال، لا يمكنك أن تستدعي شخصاً دون مناداته باسمه، ولا يمكن لشخصٍ أن يدلّ على نفسه بلا اسمٍ.

أوبو غبيس ــ «ماسك» (أكريليك على كانفاس ــ 150 × 150 سنتم ــ 2021)

غير أن من اسمه خليل ليس بالضرورة شاعراً كلاسيكياً ناظماً للبحور والتفاعيل على شاكلة الخليل بن أحمد الفراهيدي. وسلام ممكن أن يهوى ضرب المدافع. أما من يُدعى كريم فله نصيب وافر من التناقض المحرج، فمن الوارد أن تتعرف إلى كريم الذي يبقي يديه مغلقتين بعد أن ذهب فيه الظن أن في فتح كفيه، للتسليم أو التلويح، تسريباً للهواء، وهو ما يراه تبذيراً. وهذه حجة وافية للقول، إن المعنى ليس معطى قبلياً، يتطابق فيه الاسم مع المُسمى، بل المعنى وهو مرادف للهوية، يأتي عقب السياق، ووفقاً لوظيفته في السياق نفسه.
يبقى التفريق بين الأنواع المتعددة للاسم، مثل الاسم الشخصي أو الاسم الجامد أو المشتق، والدلالات المُشتقة كل على حدّة، جهد عدمي بقدر ما في الالتباس الواقع بينها في المستعمل اليومي من عدمية، ووفقاً لتحريفية جائرة لمقولة ابن سراج: «الاسم هو ما جاز الإخبار عنه« تطفو كل الأسماء لمجرد أنها تحمل أخباراً وقصصاً، في استعمالاتها وطبيعة وظيفتها، سويّة.
ذلك أن الفرحة التي تعتري الأب حين يستبدل مولوده الصغير البكاء باللسان وينطق باسم والده، أو بما يشير إليه بنطق مكسّر مَقيت (بابا) خير تمثيل، وفيها ما فيها من انكشاف مفضوح حيال حالة الارتباط الوثيق الذي يكنّه المرء للاسم وما يثيره الاسم فيه. وسرعان ما ينشط الأب بممارسة نشاطه الأول، مكلّلاً موقعه الجديد بإطلاق التسمية على الابن، باسم غالباً ما يكون محضراً سلفاً. فإما أن يكون اسم الابن مستمداً من اسم الأب، الذي بدوره هو مستمد من اسم الجد، وهي استعارة ركيكة لا تدل على سوى امتداد بطل العائلة وتأكيد خلوده أي عدم ضمور وهجه مع مرور الزمن والباقي قصة بليدة طويلة، وإما أن يكون للاسم مكانة خاصة عند الأب كعشقه لنوع معين من الورود أو محبوبٍ فائت لم يمض على حبه بعد، أو وكما هو الحال عادةً، صفة يراد أن يكون المولود موصوفها. وبين الذين أعرفهم، ومن يعرفون، والكثير من النبش في أرشيف الإنترنت وأسئلة، تبدو ناجمة عن امرئ أحمق يحوم بفذلكة وراء المعرفة، لمتخصصين في التاريخ وروايات القدامى، لم يأت جواب واحد يشير إيجاباً إلى اسم واحد اختار طوعاً لنفسه اسماً بعد ولادته.
لا الولادة باليد، وعلى ما يظهر، لا اختيار للاسم من طرف المُسمى، بل الإذعان منذ المشي قرفصةً حتى النجاح في السير مستقيماً، بأن يحمل المسمى اسمه على كتفيه ويمشي كما تحدده بوصلة الاسم دلالةً وتعريفاً. وكأنّ الاسم هو السجن الذي يقذف به المسمى قبل أن يتعرف إلى عينيه، فكيف إن كانت حدوده الضيقة للغاية مرسومة سابقاً؟
على أن الاسم هو الميراث الأول الذي يحوزه الابن مجاناً يمسي التخلص من الإرث إنكاراً للجميل، أو بالأحرى انقلاباً، وهو تصرف يثبت على فاعله تهمة مشينة تحول بين الهرطقة والإجرام، كنافر من تقاليد العادات في الأولى أو كقاتل للأب ولمشيئته في الثانية. تغدو عملية التخلص من الاسم عملية شبه عقيمة تشبه السير حافياً على طريق وعرة معبّدة بالمسامير، بل القول فيها إنها خيار مستحيل للراغب في الخلاص، هو أقرب إلى التصديق.
ترى أن المعضلة هذه لهي تعبير مكثّف عن واقع جامد يربط الاسم بالمسميات، ويعرّف الهوية بناءً على الاسم، بوجودية هذارة تعترف: الماهية تسبق الوجود فإذاً الاسم يولّد معناه، قدري يؤمن بالمكتوب قبلاً، على شاكلة أن الغليون هو الغليون، والبطيخ هو البطيخ وهو من السكر فلا يُملّح، وإذا ما «مُلّح» فقد انزاح عن «بطيخيته» وهذا إثم غير مغفور.
ولأن الساعي إلى تغيير اسمه سيكون أشبه بساكب الملح على البطيخ وأكله، ستنحصر مهمته في تقمّص دور محامي الدفاع عن نفسه في محكمة يُراد منها توكيد الاتهام أن تغيير الاسم هو بمثابة انقلاب يقوده صاحبه على واضع الدستور المنزلي، أي الأب، وبالتالي، تغيير كهذا هو في مفردات القاضي تمرد على الهوية يبغي القطيعة، يسعى المُنقلب عندها إلى الاختراع، على اعتبار أنه يحتاج إلى حجّة تنقذه من الوصم. وليست الحاجة هنا إلا الأم، المنقذة الحنونة، للاختراع.


فالتخلص من أسامينا التي تعب عليها أهالينا، حسب قول فيروز، بشكل منمّق لا يثير حنق الأب، ولا يؤدي إلى احمرار خدّيه، لا يكتب له العيش سوى بخط سلمي على نص غير متوتر ولا يقصد الهدم، بل بكولاج يركب الحجة المضادة فوق الحجة الأصلية دون نفيها. والتوفيق المُخترع إياه، هو لوحة مخادعة شديدة التزييف تدعى الاسم المستعار، تصوّر انقلاباً نجح بفعلته دون إصداره ضجيجاً، على شاكلة بورتريه لقائد ثورة يجلس على رأس الطاولة تيمناً بانتصاره، بيد أن من يجلس بجانبه هو قائد الجيش. فبدل الانقضاض من الابن على الأب وتغيير الاسم، تتغير الخطة فتحضر الملاطفة، تداول كلام مُغرٍ يخرج سريع النطق وينزل على الأذن طرباً.
يغدو الاسم المستعار ضرباً من ضروب الديبلوماسية بما هو مشي متوازٍ مع الاسم الأصلي ظاهرياً، على أنه يتجاوزه باطنياً، بأشواط وأجيال. وبوصفه نداً، أو معارضاً لمفهوم الانقلاب برمّته، كما هو الحال مع عملية تغيير الاسم، لا يثير الاسم المستعار الجلبة، بل بما هو مُراعٍ للياقة "الاجتماعية" وغضب الأب، يجلب قبولاً وترحيباً.
ولكن ما يكشفه من يحملق عن كثب في حقيقة الاسم المستعار يرى أنه يد ملساء تداعب خد الغاضب، وتهدّئه عوّضاً عن شنقه. فإذا كان تغيير الاسم مذمّة أو سبباً كفيلاً لاندلاع الحرب لأنه يوحي بالتغريب، يجهد الاسم المستعار، أن يدخل صاحبه طور التحديث ويبقي في الوقت عينه على الأصيل ملكاً، يتربع على عرشه وعلى رأسه تاج، فلا حاجة إلى إلغائه، لأن الموقع الشاغر يشبه إلى حد بعيد ملكة بريطانيا فما هو إلا موقع فخري.
بيد أن الاسم المُستعار مثل أنواع الأسماء المتعددة، متعدد غائياً ووظيفياً، وعليه ففلسفاته المتعددة تجتمع على سمة جوهرية واحدة: ضرورة الوهم وحاجته. فالاسم المستعار بما هو استعارة لاسمٍ، عملية ذاتية تخص صاحبها الهارب، أو ذاك المتنصل، من ثقل عالم موضوعي. من ثم، هو انعكاس لهوية مرجوّة تأخذ من استعارتها غشاوة لتؤكد على فرادتها. أو هو انتقام ناعم، ولو بدا هشاً قابلاً للفضح عند التذكير، إما من بشاعة الاسم الأصلي أو من إكراه سابق تعرض له صاحب الاسم ولم يعد باستطاعته تحمله. وحتى يمكن أن يكون سداً منيعاً يقف أمام خطر محدق يسببه قول ناجم عن إفصاح صارخ أو بوح حميم فيحتمي وراءه صاحبه.
على هذا النحو، نجد أن التاريخ يحفل بأسماء مستعارة أخذت من خيارها الواعي هذا مركزاً للحجب والكشف، من تأبّط شراً في الجاهلية، إلى ديك الجنّ في العصر العباسي واللائحة تطول. حيلة يتستر خلفها الفاعل، وينكشف فعله من خلالها، على أن يبقى الاسم المستعار مفعولاً به. فعندما قرأ علي أحمد سعيد إسبر كتاب "الصراع الفكري في الأدب السوري" تيقّن أهمية الأسطورة وآمن بضرورة إحيائها، وهكذا احتفى بولادته الجديدة وصار أدونيس، في محاولة منه أن يطلق العنان لهوية متفرّدة أرادها متناغمة، بإيمان عَمودي لا يفصل النظرية عن الممارسة.
طوني حدشيتي بات زين العمر، وهذا شأن مسلّم به عندما يتعلق الموضوع ببشاعة الاسم من جهة وما يُطلق عليه "الاسم الفني" من جهة أخرى. والأخير، يحتاج إلى تسويق برّاق بهيج، والذي يحتاج بالتالي، إلى التجاوز والمفارقة. والحلّ الأمثل في حالة كهذه هو الاتكاء على أدوات علمانية تنزع الطابع الهوياتي وتجرده من موروثاته، فتزيل عن صاحبها الصبغة المحمولة وتقدمه على أنه منتج محايد، يقبله الجميع، قابل للامتداد والسمع في مجتمعات تحمل هويات مضادة. أما سول غوودمان، والذي كلما تذكر لقبه الأوّل “slippin Jimmy” (جيمي المتزلق) شعر بالبهجة، فقد رفس اسمه الأصلي "جيم ماكغيل" بعيداً بعد أن عانى ما عاناه من فشل وإخفاق تحت وقعه. هكذا ارتأى أن في اسمه الجديد مهرباً واعداً مما لم يعد باستطاعته تحمله، بنظرة تفاؤلية قائمة في طياتها على الإيجاز والإطناب، على أن الاسم يعني "كل شيء جيد يا صاح" (It’s all good man).
وعندما يأتي الحديث عن الاسم المستعار كملاذ آمن للتخفي، نتطرق إلى حديث الساعة. وصوت عقارب الساعة صاخب مثل صيحة المنبّه أو رنين الإنذار، وعندما يتم التذكر سرعان ما يحضر في الرأس الكاتب الهندي. فلو تفادى سلمان رشدي اسمه، كما سبق وفعل لعدة أعوام، لكان بإمكانه ربما، أن يحافظ على سلمان رشدي سليماً، دون تكبّده خسارة جزءاً من الكبد وفقدانه إحدى عينيه. ذلك أن جوزيف أنطون، وهو الاسم المستعار الذي اتخذه رشدي للتخفّي والتورية، غير مطروح في مزاد القتل والتهديد، وهو اسمٌ، إذا مرّ مرور الكرام دون التمحص فيه وفكّ دلالته المركبة (جوزيف كونراد+ أنطون تشيخوف) لا يوحي إلى سوى شخص ينتمي إلى الطبقة الوسطى القادمة من أو القابعة في الريف، لا ينشغل بالها إلا بكلفة الضريبة أو بمرارة كلفتها في حال التهرب منها. فدماء جوزيف أنطون، المجهول، لا يأبه خنجر هادي مطر المسنون في تذوّقها.
الباحث عن الجريمة لا يتوه والمجرم لا يطلب علّة. هناك من يرغب بالاسم المستعار في الحياة اليومية، وهناك من يرغب فيه على شبكة الإنترنت. وجرائم الإنترنت لا تُعدّ ولا تحصى، وشرط اكتمالها هو التخفي وراء الاسم المستعار، لكن هذه المرة ليس خوفاً من تهديدٍ ووعيدٍ إنما لممارسته. وربما الجريمة الأكثر وهجاً في عهدها والتي حدثت على الإنترنت في لبنان هي تلك التي ارتكبها شاب في منتصف العشرينيات أو أوائل الثلاثينيات، حيث ألقى القبض عليه الأمن العام أخيراً، بتهمة الابتزاز والاحتيال، بعد أن نجح باستهداف الذكر الملهوف على الجنس، حتى وقع في شركه شبان عديدون، الواحد تلو الآخر على مدى عامين.
الأخير ذهب بخطواته بعيداً، فقد غيّر جندره مفصحاً عن هويته الجديدة بأسماء إناث، فكان رانيا تارة ولين طوراً، وكان كريستال أحياناً وجميعهن يجتمعن على المعايير العصرية لجمال الجسد: النحافة الممشوقة وكبر الصدر والمؤخّرة في آن. ليس المدعى عليه ع. ن الأول ولن يكون الأخير. يحفل عالم الإنترنت بالأسامي المستعارة ولا أحد يمكنه الوقوف في وجه ذلك. ربما يعود ذلك إلى أن الإنسان يخترع نفسه في تلك المساحات الفاقدة للأب، أي يخلق نفسه بنفسه، حتى إنه يصير أباً يُرجى التخلص منه سريعاً. وربما لأنه إذا ما صارت المقارنة بين كلا الفضاءين الافتراضي والواقعي، فالنتيجة ستكون شبه محسومة، إذ تبدو الأولى أكثر متعة من الثانية وتفوقها خصوبة في الخيال. عندما ينحو الخيال إلى الشر، يعدو الإنترنت مدفعاً حامياً أكثر ضراوة من القنبلة الذرية. الحلقة الثانية من الموسم العشرين في مسلسل الكارتون الأميركي «ساوثبارك» كفيلة بالبرهنة. فـ«سكايت هانت 42» وهو الاسم المستعار للحساب الإلكتروني الذي اتخذه بطل المسلسل جيرار بروفلوفسكي ليختبئ وراءه ويطلق العنان بإفراط، لتهويماته الأثيرية وتصرفاته السادية على حسابات حقيقية تابعة لأشخاص، قد دفع أذيته للأشخاص بأن يلقوا حتفهم انتحاراً.
أما خارج كل هذا، فنجد أيضاً على الإنترنت أسماء مستعارة موجودة، تغدقها الدوافع نفسها التي يطلبها أي شخص في استعانته بالاسم المستعار. وعلى سبيل المثال، التويتر خير مثال لديك، من يتوارى خوفاً من الأذية، وهناك من يشبه أدونيس في التطلع نحو هويةٍ مرجوّة (وفي ذوقه الأدبي)، وتجد من يود أن يتوارى حفاظاً على الموضوعية ويتموضع محايداً.
ولعل حساب/ اسم المستعار «ليروي وآخرين» الذي يحاكي النوع الأول أشهر من أن يحلل. حيثما حل استعراض الليبراليين ولغو خطابهم، تحل «ليروي» وحججها، بمنهجية غالباً ما تقوم على قاعدة المفارقة فالفضح، هكذا تقلب المعادلة تحت راية الهجوم أفضل طريقة للدفاع. لكن ما نعرفه عمن وراء الحساب فقد عرفناه أخيراً. وهو بشيء تافه وبسيط، حدث بعد أن نشرت "ليروي" صورة لها على البحر مرتديةً فستاناً وصندلاً، الشيء الذي يدل على أنها فتاة. وفي حالتها هذا أمر كافٍ. فالأخيرة إذا ما تسلّلت وراء الاسم المستعار لإخفاء حقيقة هويتها، بدا أن اسمها المُستعار لعنة حلّت عليها. وواقع الحال، أن المنصات المشغولة بتحقيقات استقصائية تطاول شخصيات مرموقة وحسابات مصرفية، وتتباهى بدقة معلوماتها ومتانة محتواها، غلب عليها، عندما أتت مسألة «ليروي»، الظن بدلاً عن اليقين فكانت نتيجة عجزهم عن كشف هويتها الكثير من التضليل فالافتراء على مشتبه بهم لا تربطهم علاقة ولا معرفة بـ «ليروي» إلا في وجهات النظر. وفي هذا الكثير من ضحك الاستهزاء أيضاً.
حيثما حلّ استعراض الليبراليين، تحلّ «ليروي» بمنهجية غالباً ما تقوم على قاعدة المفارقة فالفضح


وإذا كان التشبيه بأدونيس مبالغاً به، فذلك يعود الى خطأ في التصريف، فيما المراد قوله هو أن النوع الثاني من التعريفات أعلاه، الذي قوامه الهوية المرجوة، إلا أنه صودف وجود حساسية مشتركة تخصّ القصيدة والأدب عند صاحب الاسم المستعار والشاعر المذكور، الأمر الذي يبديه المدقّق كونان في تغريداته. فالمدقق كونان، الاسم المستعار لشخص لا يتابع أحد إلا الإعلامية كريستين حبيب لدواعٍ، مثله مجهولة، البليغ في اللغة العربية وقواعدها، حتى يكاد الفصل بينه وبين العربية يكون مستحيلاً، يعطي انطباعاً مضافاً بأنه يريد أن يكون ذاك الذي يعصرن اللغة وكيفية تلقينها، بسهولة ومرونة، لمتابعيه. وهنا يكمن بيت القصيد. فمن تتابعه هو بشكل من الأشكال روح اللغة العربية ووجهها المرن والجميل. وكونان في الأصل، يعود إلى اسم البطل في المسلسل الكارتوني الياباني، وهو مثل شيرلوك هولمز، متحرّ أي محقق، يحلّ الجرائم ويكشف الألغاز. لكنّ الخطأ النحوي عند المدقق كونان، ليس كما ساد الأمر في المدارس أو التصوّر الذهني الشائع أن الصرامة رديفة العربية. فعند كونان الخطأ لا يُعدّ جريمة تستحق أبشع أنواع العقاب بقدر ما أنه عطب خفيف وجب تصليحه فوراً. والأمر اللافت، والذي يخرج كونان عن طوره المألوف، احتفاؤه إحدى المرات بأخطاء نحوية تخص نصاً مكتوباً على يافطة في أحد الاحتجاجات التي تلت 17 تشرين. وما أكّده آنذاك، هو قاعدة «غودارية» يجوز التعلم منه ومنها، أن الحياة تسبق الأدب لا العكس، يعني أنها صانعة القواعد ولها الأسبقية في تحديدها، وهو درس جديد في العربية.
لا يودّ «أرشيف لبنان» أن ينأى بنفسه. هو منخرط في النقاش والتعليق اليومي الذي يخص السياسات الاقتصادية. لكن هذا غير مهم. لم يكن اسمه المستعار «أرشيف لبنان»، عدّله معتمداً الطريقة الديمقراطية، أي التصويت أو الانتخابات. سأل وقتها «اقترحوا الاسم الذي تجدونه خير تمثيل لهذه الصفحة». كتبت له «أحداث حوادث لبنانية». تبنّى «أرشيف لبنان» وخيراً فعل. و«أرشيف لبنان» مكتبة ضخمة لكتب ومنشورات نادرة وقيّمة، بعضها صدر أيام الحرب ومصيرها كان مثل الكثيرين من المعتقلين، الاختفاء، وبعضها الآخر، الله أعلم. كان هدفه الأساسي أن يوفر هذا المحتوى على الإنترنت بسعر بخس. لم يحدث ما كان مخطّطاً له والسبب غير مهم. و«أرشيف لبنان» مثال حيّ على تاريخ لبنان. فهو متى ما نشر صورة أو وثيقة لبيار الجميّل اتُّهم بأنه يميني، ومتى ما نشر صورة لكمال جنبلاط، صُنّف بأنه يساري. على أن اسمه المستعار يؤكد حقيقة راسخة، أن في أرشيف الماضي حاضر اليوم، والمستقبل فهو اسم محذوف.

«أرشيف لبنان» مكتبة ضخمة لكتب ومنشورات نادرة وقيّمة


وأيضاً، فإن «أرشيف لبنان» مثال حي على راهنية لبنان. فما كان من غير الممكن توقّعه هو أن يكون الاسم المستعار هو الذي اتُّخذ لغاية الإخبار ونشر المعلومة، أن يجعل صاحبه يرتطم بما كان هارباً منه أصلاً. على أن التجاذبات التي تُخلق في لبنان، تبيّن أنها من خلق لبنان، فاقتصرت الواقعية في اسمه المستعار على الأرشيف، مؤكدة على الأرجح وبلا قصد، أن لبنان أساساً استعارة فاقدة للمعنى.
وبين يديك نص يقول: إذا ما سطا اسمك عليك وكتب لك مسارك فها قد تبدّى الديكتاتور، فكّر في الأمر مرة، ما عليك عندها سوى تفعيل خدمة الاسم المستعار، وإذا فكّرت في الأمر مرتين فافتعل انقلاباً واستبدله.