أعرف سلفاً أن الكلام يتقطّع في هذه الشهادة الناقصة التي لن تخلو من إخلاء مساحة جديدة لاختبار خاصية اللجوء الأبدي التي ميّزت صداقتنا عبر أكثر من عقدين، ومهّدت لكتابي عن تجربته «الاستبداد المفرح» حتى تعالقت فكرة لجوء الفلسطيني مع نزوح ابن الجولان إلى حدود التخوم المنهكة، فلا يعود هناك فاصل بينهما، وربما هذه التخوم هي من دفعت بالشاب المرهف والمثقف والخجول لأن يسجل للدراما التلفزيونية العربية في «التغريبة الفلسطينية» واحدة من أهم وأروع أعمالها على الإطلاق. حتى إن الحدود امّحت تماماً بين ما هو مرئي في السينما، كفلسفة بصرية، وما هو مبثوث في التلفزيون، إذ أوجد فلسفة خاصة به.

أكاد أحسب أيضاً في شهادتي أن حزمة من أعمال حاتم علي كانت معدّة لصنع ضمير أخلاقي درامي لا يمكن تجاوزه، حتى مع التبدلات العميقة التي صارت تتناول التلفزيون –كوسيلة-تضرب في القاع الاجتماعي وتزلزله، وتغير من مفاعيل الحياة العربية المعاصرة نفسها، إذ ظل حاتم علي مهيمناً على أدواته من دون تنازل، وليس براعته في التقاط أدقّ أنفاس ممثليه وممثلاته، إلا نابعة من هذه «الهيمنة المفرحة»، فنّ التلاقي مع الممثل في المنتصف، وأعتقد أن دماثة وخجل حاتم علي لعبا دوراً كبيراً في صنع دقة المخرج الكبير بداخله.
يضطر الممثل الخجول إلى اللعب على الخشبة أو أمام الكاميرا بأعصابه، وهذا قد يفسّر في جانب منه أن بعض أهم الممثلين في عالمَي المسرح والسينما كانوا يعانون في حياتهم الخاصة من التواصل مع الآخرين، ويجدون فسحة هائلة في شحذ مشاعرهم في الأداء والتمثيل فقط. وأجزم أن حاتم علي الذي فرض رؤية خاصة في طريقة تعامل المخرج مع الممثل، متجنّباً بقوة «فوضى» شركات الإنتاج التلفزيونية العارمة التي تفرض على معظم المخرجين رؤاها استطاع أن يأخذ من ممثليه أفضل ما لديهم، وهذا يفسر جذوة ذلك الإشعاع الذي لا ينطفئ في أعماله، الإشعاع الذي رفع من مستويات أعماله إلى الحد الأقصى. وصار يمكن القول إن للتلفزيون ذاكرة بعكس ما يشاع عنه.
الآن عندما يقود البعض معركة خاسرة مع المصطلح أعلاه يمكن تفنيده ونفيه بالسرعة القصوى، ها هي أعمال حاتم علي لا تنضب في الذاكرة. لا أحد في الدراما العربية يمكنه تجاوز هذا الإطار الذي وضعه في شغله على مسلسلاته، كمن كان يدير معركة رابحة سلفاً.
كنت أعرفه من قرب، وأعرف أنه كان يدير صنعته كمخرج بفرح ومقاربة للذاكرة التي لا تنشغل بالذوبان، مع أن وظيفتها في عالم متقلّب ومتنافر أن تعيش على هذين الحدين: حد الدراما التي صنعها حاتم علي، وصنع معها ذاكرة مضيئة للتلفزيون في مصالحة تاريخية فريدة مع هذه الآلة، وحد الدراما الأخرى القائمة على الطيش وسهولة ابتلاع المفردة الدرامية التي صارت ترغم كثيرين على الاستقواء بالتلفزيون في تفتيت الذاكرة الجَمعية. ما فعله حاتم علي في مشواره الحافل هو صناعة ذاكرة مجيدة للتلفزيون، بالرغم من كل ما تقدم من كتابة ونظريات في تمجيد طقوس الصالة المعتمة.

* مخرج فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا