مواجهة العنف والإرهاب الحقيقية تستلزم فهم أسبابه، والوعي بخطورة ثقافة العنف والتربة التي ينبت فيها قبل تحضير ترسانات الأسلحة الثقيلة وعناصر «الصاعقة» الأشداء، حقيقة غابت عن أذهان صناع مسلسل «الإختيار» الذي يضيء على تضحيات الجيش المصري في مواجهته المستمرة مع التكفيريين شمال سيناء. كما غابت من قبل عن أذهان رجال الدولة في مصر. فالمسلسل منشغل كما الدولة بجَبه خطر «الاخوان» التائقين للعودة إلى الحكم الذي أقصتهم عنه هبة شعبية تلقفها العسكر في العام 2013، وبحسب المسلسل لا هدف للتكفيريين في تفجيراتهم الانتحارية سوى إظهار هشاشة السلطة الحالية وعجزها عن توفير الأمن بهدف إعادة الإخوان إلى السلطة!والعلاقة التي يزعمها المسلسل بين الإخوان والتكفيريين مبالغ بها، صحيح أن ثمة جذوراً مشتركة، وشعوراً بالعجز أصاب أنصار الجماعة بعد خسارة السلطة التي حلموا طويلاً بالوصول إليها، فدفع ببعضهم إلى أحضان الجماعات التكفيرية، إلا أنّ التماهي ليس قائماً بهذا الشكل... تشعر في أكثر من مكان أن صناع المسلسل ما كانوا ليشيطنوا «الجماعات الإرهابية» لو لم يكن ذلك ممراً إلزامياً للتصويب على الاخوان ومن خلفهم قطر وتركيا... في أحد مشاهد المسلسل، يقدم العقيد أحمد المنسي (أمير كرارة) محاضرة لجنوده ينفي فيها عن هؤلاء صفة الإرهاب مفضلاً تسميتهم بالتكفيريين! ثم يطل أحد أبطال العمل أحمد الرافعي في مقابلة ليؤكد أنه يرفض تسميتهم بالتكفيريين تماشياً مع رأي الأزهر الشريف الذي لا يكفّر مسلماً! (هل التبست على الرجل لفظتا «كفار» و«تكفيريون»؟ وهل ينتظر تكفير هذه الجماعات لكل من يخالفها رأي الرافعي أو رأينا أو رأي الأزهر؟)... حسناً... كيف نسمي هؤلاء؟ هل نستعير من السعودية عبارة «الفئة الضالة» أم نعتبرهم «مجاهدين» لهم ما لهم وعليهم ما عليهم؟
مناسبة هذا الكلام مشهد تضمنته الحلقة 20 من المسلسل، هو عبارة عن محاضرة دينية يلقيها أحد مشايخ الأزهر الداعية رمضان عبد المعز على مسامع جنود المنسي في سيناء، يعتبر خلالها تكفير الناس استناداً إلى رأي «ابن تيمية» ظلماً للرجل، مؤكداً أن الأخير «بريء من الملف ده»، مستحضراً رواية عن طلب ابن تيمية من قائد التتار عند استيلاء الأخير على دمشق إطلاق سراح الأسرى المسيحيين واليهود قبل المسلمين، ومذكراً أن للفتوى بيئتها، وفتاوى ابن تيمية جاءت في ظروف معينة تعرضت فيها الدولة الإسلامية لهجوم من أعداء كثر، وهي ليست صالحة لكل زمن.
طبعاً ما ورد أعلاه ليس جديداً، بل هو منطق يحاول الترويج له منذ سنوات بعض الإسلاميين «الوسطيين» ممن تحولوا فجأة إلى «ما بعد حداثيين» وأتوا ليشرحوا أن المشكلة ليست في ابن تيمية، بل في «استخدامه»! الجديد أنّ هذا المنطق بات يصدر عن جهات رسمية تعمل بلا كلل لنقل العقيدة القتالية للجيش المصري من العداء لإسرائيل إلى حرب أبدية مع عدو وحيد هو العصابات الإرهابية، فنكتشف أنها لا تجرؤ أيضاً على مواجهة هذا العدو بالشجاعة الكافية لاعتبارات كثيرة، بل تكتفي بإلقاء خيرة ضباطها وجنودها في حرب استنزاف لا تنتهي مع الفروع، مقابل مهادنة الأصل ومسايرته وهو الفكر التكفيري الإقصائي الذي يبيح دم الناس.
تبرئة ابن تيمية والتصويب حصراً على «استخدامه» حصيلة طبيعية لمسار «استخدام» سيناء، والجيش وتضحيات ضباطه وأفراده، والدراما، في حسابات سياسية تتوسل مصالح ضيقة، وتجعل كل شيء مباحاً في خدمة السلطة وأجندتها الظرفية، هكذا يصبح لملف الإرهاب آباء كثر في قطر وتركيا وإيران (التي ترد دائماً في المسلسل على لسان الإرهابيين كنموذج يرغبون بتقليده في محاولة غير بريئة لوضع الطرفين في كفة واحدة).. آباء ليس بينهم «ابن تيمية» حتماً، فالأخير ليست له مشكلة مع «أولياء الأمر» في السعودية والإمارات (بل هو مصنّف كأب روحي للفكر الوهابي)، وهو لن يزاحم السيسي على الحكم بطبيعة الحال.
الملفت أن بادرة حسن النية هذه تجاه ابن تيمية لم تنجح في أحد أهدافها وهو استمالة بعض المتدينين العالقين في منطقة وسطى، فقد استاء هؤلاء من مجرد ذكر «شيخ الإسلام» في مسلسل يتحدث عن الإرهاب، وأطلقوا هاشتاغ #ابن تيمية_مش_إرهابي متجاهلين أن مقولة المسلسل تتحدث فقط عن «تلطي الإرهابيين خلف فتاوى الرجل»، والملفت أكثر أن هؤلاء لم يزعجهم بالمثل تلطي الإرهابيين، على مدى 25 حلقة، خلف آيات القرآن بعد تفسيرها كما يحلو لهم، ولم يعتبروا ذلك إساءة للقرآن!