لم يتأخر مسلسل «الاختيار» (كتابة باهر دويدار وإخراج بيتر ميمي وإنتاج «سينرجي» ــ تامر مرسي) في تصدَّر المشهد الرمضاني في مصر لهذا الموسم. قبل عرض حلقته الأولى، كان كافياً الإعلان أن المسلسل يروي حكاية العقيد أحمد صابر المنسي (1977 – 2017) قائد الكتيبة «103 صاعقة» الذي استشهد في كمين مربع البرث في مدينة رفح (شمال سيناء)، وأن النجم أمير كرارة الذي أدّى بنجاح دور ضابط الشرطة ذي القدرات الخارقة لثلاث سنوات متتالية في «كلبش» بأجزائه الثلاثة، سيلعب بطولته، كي يتحقق ذلك، فضلاً عن البرومو الذي أظهر بوضوح السخاء الانتاجي لشركة «سينرجي» والإمكانات الهائلة التي وضعتها القوَّات المسلحة، من الطائرات والدبابات والآليات الثقيلة إلى العنصر البشري، بتصرّف صُنّاع العمل. وكان بديهيّاً أن يختار صناع العمل شخصيَّة المنسي دون غيره للإضاءة على كفاح الجيش المصري ضدّ العصابات الإرهابيَّة في سيناء، وهو المعروف بـ «الأسطورة»، والذي تحوَّل إلى أيقونة لدى عموم المصريين المؤيّدين للنظام وللجيش. ومن الطبيعي أن تغري حكايات بطولاته المتداولة كتّاب الدراما والسينما، كما أنَّ تقديم هذه الحكاية عبر ثنائيَّة المنسي – عشماوي مفهوم أيضاً، والطرف الثاني هنا هو هشام عشماوي «ابن دفعة» المنسي الذي جرى فصله من الخدمة ليلتحق بعدها بصفوف الإرهابيين، وتشاء الصدف أن يكون هو نفسه مسؤولاً عن قتل صديقه بعد سنوات تحول خلالها إلى مسؤول في تنظيم داعش في ليبيا (جرى اعتقاله وتسليمه إلى مصر لاحقاً). وقد نشر المخرج بيتر ميمي على صفحته على فايسبوك مؤخراً صورة حقيقيَّة تجمع المنسي بعشماوي معلقاً: «ده ظابط وده ظابط.. بس واحد على العهد وواحد خان.. منسي الأسطورة». وهو ما يوضح اسم المسلسل «الاختيار».
أحمد المنسي
ومن الطبيعي أيضاً أن تلجأ الدراما إلى تظهير هذه الثنائيَّة بشكل صارخ، من اختيار الممثلين إلى الماكياج إلى الحوارات، معتمدةً المبالغة في كلّ ذلك، لنشاهد أحمد العوضي في دور عشماوي قبيحاً دائم العبوس، يعاقب أحد جنوده المتدربين بالحرمان من الإجازة لإقدام الأخير على أداء بعض الأغاني الشعبية المعروفة لزملائه في وقت راحتهم، قبل أن يتولى المنسي الوسيم الباسم حل الموضوع برصانة واتزان محافظاً على هيبة زميله الضابط ورافعاً عن الجندي الظلامة المحدقة به، في آنٍ واحد، ثم نشاهد العشماوي في الحلقة الثانية يوبّخ زوجته بسبب حلوى العيد التي تضعها أمامه معتبراً أنها «بدعة»، فالرسول لم يكن يأكل الكعك في العيد، مقترحاً إخفاء طبق الكعك عن الأولاد لحين انقضاء أيام العيد كحلّ وسط بين رميه في النفايات وبين أكله في العيد وكلاهما معصية.
كما أنَّ المبالغة في إظهار الخلفية الدينيَّة لضباط وعناصر الجيش المصري تأتي فاقعة بدورها إلى الحدّ الذي تكاد تأخذ معه طابعاً تهريجياً وتؤدّي دوراً عكسيّاً عند المشاهد الذي يعرف أنَّ المصريّ متديّن بطبعه غالباً، وأنَّ أفراد الجيش ليسوا كفاراً يحاربون الإسلام كما تزعم السرديَّة المناوئة لهم، ولكنهم بالمقابل لا يملكون الوقت الكافي للتحوّل إلى دعاة يشرحون أحكام الدين بالتفصيل لكلّ من يلتقيهم، ويلهجون بذكر الله عند كلّ حركة وسكنة وبمناسبة أو بدونها، ويؤدّون الصلاة جماعةً قبل كلّ عمليَّة!
ولعل ما هو غير طبيعي – ولكنه مفهوم أيضاً - انتقال المسلسل سريعاً، ومنذ حلقته الأولى، من ثنائيَّة المنسي × عشماوي والجيش × الإرهابيين، إلى ثنائيَّة السيسي × مرسي، والغرق في التطبيل للنظام الحالي بشخص رئيسه وامتداح الانقلاب الذي نفذه الجيش في العام 2013 استجابةً لتظاهرات شعبيَّة حاشدة، ومحاكمة بل جَلد الفترة القصيرة نسبياً التي تولى فيها الإخوان الحكم من خلال الرئيس السابق محمد مرسي (1951 – 2019)، والإيحاء بأنَّ الشعب المصري تنعَّم قبل هذه الفترة وبعدها بحالة من الرخاء والإزدهار والديمقراطيَّة وحريَّة الرأي. والحديث عن دور أسود للإخوان في سيناء وعن علاقتهم بالجماعات الإرهابيَّة هناك، هو محلّ نقاشات مستفيضة لا متسع لها هنا، وتقابله وجهة نظر أخرى تزعم وجود دور أسود للنظام نفسه في ما يحصل في سيناء، في لعبة مصالح لغير منفصلة عن «صفقة القرن» وقودها الفقراء من أهل المنطقة ومن ضباط وعناصر الجيش المصري المتروكين لقدرهم. ولعلَّ المسلسل يستند في ذلك إلى ما قيل أنَّه ورد على لسان عشماوي من اعترافات حول علاقته بالجماعة لدى التحقيق معه، وأنَّ ما يحصل في سيناء هو ردّ على الانقلاب العسكري، إلا أن هذا لا يبرر تحويل المسلسل إلى منصة للدفاع عن النظام والتعرّض لمسألة سياسيَّة شائكة من وجهة نظر واحدة تحت ستار تخليد ذكرى شهداء الجيش (علماً أنَّه كان ثمة كلام عن رفض عائلة المنسي للمسلسل، قبل أن تخرج أرملته بتصريح تلفزيوني تدحض فيه ذلك وتؤكد أن المسلسل بالنسبة إليها "حلمٌ تحقق"، وأنها تتابعه، وقد حضرت تصوير بعض مشاهده، وأنَّ كاتب المسلسل والممثلة التي تؤدّي دورها فيه كانا قريبين منها وسألاها عن الكثير من التفاصيل المتعلقة بالشخصيتين، وأنَّ «الرئيس السيسي لا ينسى أهالي الشهداء مطلقاً ويصدر دائماً تعليماته للعناية بهم».
هكذا نشاهد سعد (محمود حافظ) العسكري الذي سبق أن حاول عشماوي في الحلقة الأولى تأديبه بحجة الغناء في المعسكر، وقد عاد في الحلقة الثانية إلى قريته في الصعيد ليواجه هناك مسؤولاً إخوانيَّاً يطالبه بالنزول إلى تظاهرة لدعم قرارات الرئيس (مرسي) التي لا يعرف كلاهما فحواها بعد، مقابل مساعدته في تحصيل بعض الحقوق، ويحدّثه الأخير بصلافة لم تكن موجودة قبل الانتخابات الرئاسيَّة. ونشاهد سعياً لتمكين الإخوان داخل الجيش لم يستطع عشماوي انتظار تحققه فاتخذ قراره بطلب التسريح لأسباب صحيَّة، ونشاهد مناشدات لا تتوقف من المواطنين لضباط الجيش بتخليصهم من نَير حكم الإخوان مع عتب صريح يتلخص بسؤال «هل سلمتمونا إليهم؟» في سرديّة تغفل نتائج الانتخابات وتتعاطى معها كما لو كنت غير كائنة، وهو أيضاً نقاش سياسي كان يمكن أن ينأى المسلسل بنفسه عنه، إلا أنَّ مغازلة السيسي باتت بضاعةً رائجة في مصر على ما يبدو، خصوصاً أن هناك من يرغب باستمرار سريان القرار الجديد القاضي بالسماح بتناول معارك الجيش والأحداث الحقيقيَّة المرتبطة به في الدراما والسينما، وهو القرار الذي اتخذ على ما يبدو بعد النجاح الذي حققه فيلم "الممر" العام الماضي وتأثيره الايجابي على صورة الجيش الذي انتقل في عهد السيسي إلى بيع الفاكهة والخضار والإشراف على بناء القصور الرئاسيَّة.
ومن الواضح أنَّ المسلسل مشغول بحرفيَّة عالية، وحلقاته الأولى تعد بسويَّة فنيَّة ممتازة، وهو ما كان متوقعاً بالنظر إلى أسماء صانعيه، فضلاً عن ضخامة الانتاج، إلا أن الحكم النهائي يبقى بعد مشاهدته كاملاً.
وإضافةً إلى الأسماء التي سبق ذكرها، تشارك في العمل نخبة من الوجوه المعروفة على الشاشة الصغيرة في مصر، أبرزهم: دينا فؤاد (نسرين زوجة هشام عشماوي)، وأحمد فؤاد سليم (صابر المنسي والد الشهيد)، وسارة عادل (منار زوجة الشهيد)، وإسلام حافظ، وعابد عناني، وضياء عبد الخالق، وأشرف مصيلحي، وأياد نصار، ومحمد عادل إمام وآخرون.
---------
«الاختيار»: 20:00 على قناة «أم. بي. سي دراما»