في السبعينيات، وقبل الثورة في إيران 1979، كان عرب الشرق الأوسط والخليج يعتبرون حكم سلالة الشاهنشاه بهلوي – الديكتاتوري المتأمرك الذي جاءت به المخابرات المركزية الأميركية بعد تدبير انقلاب مشبوه على الحكم الوطني هناك عام 1953، نموذجاً للتقدم والعراقة الإمبراطورية، وحليفاً قائداً في الإطار الإقليمي. سعت السلالات الملكية في مختلف دول المنطقة إلى نسج أفضل العلاقات الرسمية بل الشخصية مع الشاه وعائلته. كانت تصدر الطوابع التذكارية عندما يتفضّل جلالته بزيارتها، وتجمع له طلاب المدارس ساعات طوالاً للتلويح لموكبه بالأعلام الإيرانية التي يعلوها أسد الإمبراطورية الفارسية، فيما تكيل له الصحف المحليّة المديح وتنشر قصائد التبجيل. وقتها أيها السادة لم نكن نعرف كثيراً الفرق بين السنّة والشيعة، وكنّا نجلّ شخصيّة الفدائي الفلسطيني، ويتضامن معه العرب بلا تردّد من محيطهم إلى الخليج، وتتسابق الحكومات لإغراق عرفات ورجاله بأكوام من النقد والتغطية الإيجابية في الإعلام، فيما تسود لغة العداء ضدّ «العدو» الإسرائيلي، الكيان الصهيوني الغاضب. ثمّ تغيّر شيء ما. ها نحن هنا اليوم، حيث ملايين العرب ـــ على تعدّد مواطنهم ـــ يرون في إيران العدو الأخطر والأكبر، وينقسم معظمهم سياسياً على أساس مذهبي طائفي صارم، فيما صار الفلسطينيون «جاحدين مقيتين كسالى وقضيتهم ليس قضيتنا». ويقدّم الإسرائيلي كحليف محتمل، ودولة واحة للديمقراطيّة متقدّمة تقنياً، ننتظر منها مساعدتنا في إيجاد لقاحات للأوبئة ومساندة حربنا ضد «العدو» الفارسي، وقيادة عملية بناء مستقبل اقتصادي واعد للإقليم. بالطبع، فإن المؤرخين الجادين والخبراء المتخصصين يدركون بأن تلك التحوّلات في الذهنية العربية ليست إلا خيالات دخانية ونتيجة طبيعية لسياسات منسقة بدقة تنفّذها السلالات الحاكمة في العالم العربي في إطار تبعيتها المباشرة للمركز الرأسمالي الأميركي، وأن التحالف العربي – الإسرائيلي سابق حتى على الكشف الرسمي عن الدولة العبريّة عام 1948 فيما تراوح العلاقة مع إيران من التبعيّة بالوكالة إلى حالة العداء الوجودي حصراً وفق علاقة نظامها بالولايات المتحدّة. وجهت استثمارات مكثّفة على الأرض وفي الفضاء الإعلامي لتكريس الاستقطاب بين سكان المنطقة على أسس طائفية وعرقية محض: شيعة وسنة، عرباً وأكراداً، مسلمين وكفرة وهكذا. لكن السؤال يبقى: كيف نجحت الأنظمة في كيّ وعي الناس ونقلهم من مربّع إلى آخر؟ وكيف أمكن نقل توجهات كتل عريضة خلال عقود قليلة من النقيض إلى النقيض؟
تقدّم صانعة الأفلام الوثائقيّة الأميركية جين سينكو واحدة من أفضل الإجابات على ذلك ـــ وإن من خلال مقاربة في محيط مختلف ـــ عبر فيلمها الوثائقي «لقد غسلوا دماغ أبي» (The Brainwashing of my Dad – 2015 ــ تسعون دقيقة ــ متوافر على «أمازون برايم»). سينكو راعها أن والدها الدمث وغير المسيّس والميال للأفكار التقدميّة، تحوّل أمام ناظريها إلى إنسان آخر تماماً: لقد كان يحب التعرّف إلى أناس من ثقافات وخلفيّات متنوعة، بل يحاول تعلّم لغاتهم، متفهّماً وإيجابياً، لكنّه شيئاً فشيئاً صار مذعوراً من الآخر المختلف، متخندقاً في أفكار معادية للمهاجرين وذوي البشرات غير البيضاء، ويرفع عقيرته غاضباً لدى تعبيره عن مواقفه السياسية المتماهية مع أفكار اليمين الأميركي المتطرّف المتعالية على الفقراء (المخصيين العاجزين) والأفروأميركيين (الحثالة)، والنساء (الضعيفات) والمثليين (المتهتكين). لذلك، قرّرت الشروع في رحلة بحث شخصية سجّلتها في الشريط الوثائقي لمسائلة هذا التحوّل المذهل بين حال وحال، والكشف عن مسبباته ومعناه في الحياة المعاصرة. تشجعت على المضي قدماً في إنتاج الفيلم بمساهمات ماليّة متواضعة من أفراد عاديين من ولايات عدّة عبّروا لها في مقابلات ـــ بعضها معروض في الشريط الوثائقي ـــ عن مشاعر حيرة متماثلة تتملكهم من رؤية أحباء وأقرباء لهم وأصدقاء ذكور غالباً، وقد انقلبت أفكارهم (السياسيّة) بشأن العالم، وأصبحوا مع الوقت أكثر عدائيّة وغضباً وذعراً من الآخر بما لا يُقاس، على نحو هدَم بيوتاً في بعض الأحيان وأفسد للودّ قضايا.
تقول سينكو بأن نقطة التحوّل حصلت مع والدها فرانك عندما قبل وظيفة في مدينة بعيدة عن منزله دفعته لترك النقل المشترك مع رفاق عمله السابقين إلى قيادة سيّارته وحيداً على الطريق السريع لأكثر من ثلاث ساعات يومياً. طوال الوقت، كان يستمع أثناء رحلاته تلك لثرثرة دائمة من إعلاميين يمينيين متطرّفين (لا سيّما راش ليمبو – انظر rushlimbaugh.com)، دفعته تالياً للاقتصار على متابعة الأخبار على قناة «فوكس نيوز» (أقصى اليمين ويمتلك الأمير الملياردير الوليد بن طلال آل سعود أسهماً فيها ويعدّ بمثابة وكيلها الحصريّ لمنطقة الشّرق الأوسط) ليتبنّى تدريجاً أفكارهم ومقارباتهم للأشياء والأحداث والأشخاص، ويبدأ بمتابعتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ويعيد إرسال مقالاتهم لأصدقائه عبر البريد الإلكتروني.
وفي سياق رحلة بحث سينكو، تلتقي خبراء ومتخصصين ليبراليين، من طراز نعوم تشومسكي وجورج لاكوف، أساتذة علوم اللغة والسياسة، كما يساريين وجمهوريّين منشقين أمثال كلير كونير وديفيد بروك وجيف كوهن (مذيع سابق في «فوكس نيوز»)، وخبراء صناعة غسل الأدمغة أمثال كاثلين تايلور وغيرها، وتقرأ نسق التاريخ المعاصر لصناعة الرأي العام الأميركي خلال السنوات الخمسين الماضية، والخدع الفنيّة التي يستخدمها القائمون على تلك الصناعة لتحقيق أهدافهم، وتمظهرات ذلك كلّه على سلوك الأفراد وطريقة تعاملهم مع بيئتهم المباشرة. تبدأ قصّة فرانك ـــ وكل فرانك معاصرنا ـــ فعلياً من وقت يعود إلى أيام الرئيس ريتشارد نيكسون (1913 – 1994) في نهاية الستينيات. لمواجهة تعالي الأصوات المعارضة للحرب الأميركيّة الظالمة على فيتنام وتوسّع حركة الحقوق المدنيّة للأفروأميركيين، شرع نيكسون في تنفيذ جهد منظّم لأخذ المجتمع الأميركي نحو اليمين عبر مخاطبة الطبقة الوسطى البيضاء من الناحية الأخلاقيّة المحافظة (لا الاقتصادية مثلاً)، وتشويه نظرتها تجاه اليسار المعادي للحرب والأقليّات (الفاسدة الكسولة)، مستعيناً بمستشار شاب يُدعى روجر آيليس (سيؤسّس في 1996 قناة «فوكس نيوز» بالشراكة مع الملياردير روبرت مردوخ). وتعتبر وثيقة لويس باول (1971) مفصليّة هنا، إذ اعتمدتها السلطات في التأسيس لجهد يمينيّ منظّم تجاه خلخلة المؤسّسات التي قد تكون معادية للنظام الرأسمالي، سواء في الجامعات أو المؤسسات الصحافيّة.
وبعد سقوط إدارة نيكسون، تولّى الرئيس رونالد ريغان (1911 – 2004) عبر عقد الثمانينيات قيادة هذا الجهد المؤسسي لإزاحة المجتمع الأميركي نحو اليمين وتقبّل هيمنة العنصر الأبيض. وفي عهده، أنهت الهيئة الفيدراليّة للاتصال (FCC) ما كان يُعرف بسياسة التمثيل العادل التي ـــ نظرياً ـــ حكمت العمل الإعلامي الأميركي لـ 38 عاماً قبلها. ولم يعد متوقّعاً من الإعلاميين تقديم مواد موجهة للاستهلاك المحلّي كانت تشترط الهيئة أن تكون عادلة وصادقة ومتوازنة، وتضمن تمثيلاً متساوياً لوجهات النّظر (انطلق برنامج راش ليمبو بعدها بعام على موجات الراديو الأميركيّة العابرة للولايات). وقّع الرئيس كلينتون في عام 1996 على قانون الاتصالات الذي سمح بالاحتكارات الإعلاميّة، وعبّد الطريق لتولّي إعلاميين يمينيين متطرفين صياغة الخطاب الأميركي العام وفرض لغة التهييج والتطرّف والصراخ اللاعقلاني على المتلقين المحليين، ليكون الجمهور جاهزاً في أغلبه للسقوط في رطانة حروب جورج بوش الابن الاستباقيّة العقائديّة الطابع، ونظام «من ليس معنا فهو ضدنا».
السرد التاريخيّ مع أهميته أقل تسبّباً بالصدمة للمشاهد من شهادة البروفيسورة (البريطانيّة) كاثلين تايلور أستاذة علم الأعصاب في «جامعة أكسفورد» وهي تشرح خطورة التأثير المتراكم للإعلام الموجّه على عقول البشر من الناحية الفسيولوجيّة. تصف كيف يتسبب التعرّض لسيل البروباغاندا (لا سيّما بعد ظهور البث الدائم 24 ساعة) إلى إعادة تشبيك للخلايا العصبيّة في الدماغ وتالياً زيادة ميل الأشخاص إلى الغضب والذّعر لدى التعرّض لتلك المواد، ما يستدعي إفراز مادة الدوبامين التي تمنح صاحبها نوعاً غريباً من اللّذة، تتحول بمرور الوقت إلى شكل من أشكال الإدمان، أفيوناً للشعوب وفق المفهوم الماركسي. تشير البروفيسورة إلى أن غسل الأدمغة هذا لا يحتاج إلى تنفيذه بالقوّة، بل يسقط به الأفراد تدريجاً، ويقوم أساساً على تكرار الرسائل وتقاطعها (عبر توازي طروحات التلفزيون والصحافة ومواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي)، وعزل المتلقين عن مصادر المعلومات البديلة، والسيطرة التامة على المحتوى، وبثّ المواد المثيرة للعواطف المستفزّة، مع تكثيف في التخويف من (وشيطنة) الآخر. مواد ملفّقة أو معاد صياغتها لتبدو كذلك عبر تقنيّات متعدّدة كالاجتزاء أو إيراد أنصاف الحقائق أو الانتزاع من السياق أو استخدام لغة مموّهة ومصطلحات مخادعة ورموز بصريّة توحي بمعانٍ منتقاة بدقّة.
مع مرور الوقت، فإن أولئك الذين تعرّضوا لغسل أدمغتهم يتضخّم (فيزيائياً) ذاك الجزء البدائيّ من دماغهم حيث مركز إدارة الخوف والتعامل مع المخاطر الذي يدفع المرء إلى سلوك انفعالي تنافسي عدواني في أجواء صراع البقاء، ودائماً على حساب الجزء المبدع والهادئ والخلّاق الذي ينفتح على الآخرين المختلفين ويستكشف أساليب للتجسير معهم، بدلاً من الانعزال مع المتطابقين لنا في المواقف الفكريّة والسياسيّة (والدينية)، كما غرف رجع الصدى على مواقع التواصل الاجتماعي.
شرع نيكسون منذ الستينيات في تنفيذ جهد منظّم لأخذ المجتمع الأميركي نحو اليمين عبر مخاطبة الطبقة الوسطى البيضاء


مع ذلك، فإن سينكو ـــ دائماً بحسب قصتها مع والدها ـــ تمنحنا بارقة أمل بإمكان الشفاء من هذه الحالة العصابيّة للمغسولة أدمغتهم، واستعادة نوع من التوازن والسلام الداخلي. لكنها تبدو على نحو ما عمليّة معقدة تستغرق وقتاً وجهداً واعياً من الفرد أو محيطه للخروج من مستنقع الكراهيّة هذا. وتبدو النساء عموماً ـــ على الأقل وفق الوثائقي ـــ أقدر على التّعافي وتولي قيادة إنقاذ الذكور بقدرتهن الاستثنائيّة على التواصل والتعاطف وتفهّم الآخر، وإن كانت بعض النماذج الإعلاميّة النسويّة التي عرفناها في السنوات الأخيرة في الإعلام العربي تكاد تطيح بهذه الفكرة من جذورها. للأسف.
تقنياً، الوثائقي أقرب إلى إنتاج هاوٍ أكثر منه محترفاً، وتنفيذه فيه تكرار ومواد سيئة فنيّاً (مقابلات على سكايب وما شابه) وبالكاد أنقذته الرسوم المتقنة لبيل بلايمبتون وميريام هيجوني في كسر الرتابة والثرثرة، وهناك سذاجة في معالجة الموضوع من ناحية فلسفيّة وأخلاقيّة محض من دون النظر في أصول الهيمنة الرأسماليّة على النظّام الأميركي، كما تقبّل قيم اليسار الليبرالي بصفتها الأمر الطبيعي، والاعتقاد بأسطورة وجود إعلام موضوعيّ متوازن وغير منحاز. ومع ذلك، نجحت سينكو – بموارد مالية شحيحة ـــ في إنجاز وثائقيّ مثير للجدل، يبني من خبرة عائليّة شخصيّة ملموسة فهماً قريباً من أذهان المواطنين العاديين لصناعة معقّدة خبيثة تتولّى التلاعب بعقول البشر خدمةً لأهداف النخب الرأسماليّة الفاسدة وتمكيناً لهيمنة المركز الأميركيّ. فمن هنا هم يعبرون إلى وعينا ويعبثون به.

رابط لمشاهدة الفيلم