بعض الأعمال الدرامية تترك العقدة هائمة من دون وجهة. أو لعلّها لا تخلق حبكات يمكن لهذه العقدة أن تتشابك معها! بمعنى آخر يعجز صناعها عن ضبط الإيقاع، والاهتمام المتصاعد، ونسج الأفعال المتدرجة... لذا تبدو كأنها دراما خالية من خطة تحرّكها، كما أنها معافاة من العاطفة الخلاقة والدوافع المبررة... لذا لن يستمد المشاهد أي حس منها من دون وجود حركة واضحة باتجاه خاص، ومن دون ولادة شيء ينمو ثم يذبل! لكن يظل اسمها دراما وإن كانت تكتنز ضوضاء أكثر من الفعل. يمكن أن ينطبق الحال ذاته على الإعلام، وخاصة في المراحل الحرجة والأوقات الطارئة! يصبح الإعلام إن لم يكن القائمون عليه أبناء مهنة حقّة كأنه قرع طبول جوفاء في أفراح عشوائية تقام في غير وقتها!هذا الكلام يتماهى مع الطريقة التي تشتغل فيها حالياً مجموعة من العاملين في الإعلام السوري، الذين يغالون في فهم مصطلح «السلطة الرابعة» الذي يطلق على الإعلام عموماً والصحافة بشكل خاص، ويعتقدون أنهم يملكون سلطة تمارس في وجه الشعب فعلاً، فيما هي حقيقة سلطة تستخدم لنصرة الجمهور في تعميم المعرفة والتوعية والتنوير. بمعنى أن السلطة الرابعة تستمد مشروعيتها بشكل متصاعد كلّما أثرّت في جمهورها، واستمالته نحوها أكثر! لكن هل يمكن لـ «السلطة الرابعة» أن تؤثر بمنطق استعلائي متعجرف ينضح فوقية على المشاهد، ويفيض بخطاب متشنّج لدرجة أنه يصبح عبارة عن سيل من الشتائم؟! هذا هو الأسلوب السائد عند عدد كبير من الوسائل الإعلامية منذ وصول جائحة كورونا إلى المنطقة.
القصة بدأت مع المذيع اللبناني طوني خليفة الذي قال بالفم الملآن «انقبروا انضبوا ببيوتكن أحسن تقبرونا وتقبروا ناس بتحبوهن أو أحسن ما نقبركن تحت التراب». تلت ذلك مقدمات نشرات الأخبار المبتكرة التي ألقاها المذيع ماريو عبود على lbci. مرة قال للمشاهدين «افهموا وخليكن في البيت» ثم تلاها بنشرة أخرى بعيار أثقل قال فيها: «هناك صنفان من البشر أحدها بلا مخ وعديم المسؤولية ومستهتر ولا ينفع معه الكلام ويسير كالقطيع على كورنيش المنارة يا جماعة البلا مخ، أليس لديكم من تخافون عليهم؟ تخرجون لطق الحنك على الكورنيش (..) أنتم بلا مخ وهذا الصنف يحتاج إلى عزل». تسلل هذا الخطاب العدواني إلى بعض العاملين في الإعلام السوري، والغريب أن تظهر علاماته عند صحافي إذاعي يشهد له بالاحترافية هو باسل محرز الذي ما إن قالت له إحدى المتصلات على برنامجه الذي تبثّه «إذاعة المدينة» السورية بأن هناك مبالغة في تغطية الموضوع حتى انفجر مثل قنبلة في وجهها. حتى إنّه ردّ عليها بالقول: «انزلي إلى الشارع لتحملي الفيروس» وأقفل الخط في وجهها قبل أن يدخل في موجة صراخ بوجه المتصلين، ثم ألقى خطبة غيابية قصف فيها نفس المتصلة وسألها «يا بنتي إنت لأي صف درست». طبعاً نسي تماماً أنه يخاطب ضيفة تقتضي اللياقة أن يكون أكثر تهذيباً إعلامياً معها حتى ولو أخطأت، وقد جعله الانفعال الزائد يخلط بين التحصيل الدراسي والثقافة اللذين لا يرتبطان دائماً ببعضهما. هكذا، استمر مقدّم برنامج «المختار» بالصراخ إلى درجة أنه قال معلومات مغلوطة عن ضرورة وقف المشي في الشوارع وهو أمر أكّد عليه أطباء مختصون للوقاية من كورونا بضرورة تنفس هواء نظيف في مساحات فارغة! المهم سرعان ما اعتذر المذيع السوري عبر صفحته على الفايسبوك بعد نشر الفيديو لهذه الفقرة، ثم أزال الشريط والاعتذار وطوى صفحة الموضوع! ربما يغفر الجمهور زلّة المذيع الذي عرف عنه مهنية عالية في كثير من المواضع، لكن المدهش أن يظهر مراسل التلفزيون السوري في حلب شادي حلوة بصيغة أشبه بالحالة الأمنيّة، يتعقب من خلالها المارّة في الشوارع، ويقتحم خصوصياتهم، ويسألهم بصيغة مخابراتية عن سبب خروجهم إلى الشارع، رغم أن الدولة لم تفرض حظر تجوّل. لكنّ حلوة سيتعقب امرأة كبيرة متدينة تطلب منه بتهذيب عدم تصويرها لكّنه يرفض ويصرّ على سؤالها لماذا خرجت إلى الشارع، فيما سيبدو كأنه يتحرّش في آخرين وهم يهربون من الكاميرا ويظل يلاحقهم! وصلت الأمور إلى ذروتها عندما قابل طفلة تلعثمت بحديثها وارتبكت وبدت عليها علامات الخوف، كأنها متهمة بجريمة ومطلوب منها تبرئة نفسها. راحت الطفلة بطريقة تسحل قلب كلّ من يشاهدها تعد المذيع بأنها ستلبس كفوفاً وكمامة. المفارقة أن حلوة قرر أن يعطي نصائح صحية لطبيبة صادفها في طريقها إلى المشفى! التقرير يعتبر ذروة ما قدّمه المذيع في مشوار سمته المطبّات كأنه يقول بأنه الأكثر قدرة على تقديم نسخة جديدة من برنامج «الشرطة في خدمة الشعب» وإجبار المجرمين على الندم أمام الكاميرا!
من ناحيته، عرض «راديو نينار» مادة فيديو للجنة رقابة تزور الأفران فإذا بها تتعاطى مع موظفات أمام الكاميرا بجرأة خارج سياق المنطق الإعلامي. تطلب من عاملة أن تمدّ يدها على الكاميرا وتتهمها بأن أظافرها طويلة، وتهمل كلام موظفة أخرى بأنها لا تملك ثمن كفوف وكمامات! ترى من يصدّق بأن المواطن في سوريا يتقاضى خلال شهر واحد راتباً أقّل من 50 دولاراً أميركياً؟!
مع ذلك، أصرّت مراسلة النشرة الاقتصادية في تلفزيون «سما» هبة محفوض أن تبرز مؤهلاتها دفعة واحدة أمام أحد الأفران. رغم أهمية التقرير، إلا أنها أفسدته عندما بدت كأنها ألقت القبض على ناهبي الاقتصاد السوري لحظة اصطياد كاميرتها رجلاً ناهز الثمانين يقف في الطابور ليشتري الخبز، ومن ثم يعيد بيعه بسعر أعلى! أنكر الرجل المسن فعلته، لكن المراسلة «الحربوقة» أمطرته بوابل أسئلة لم يفلت منها وزادت عليها مجموعة شهود أنهكوا حجّته وأوقعوه في شرّ أعماله وطوقّوا عنقه! لم لم يعنها بأنها تهين كرامته على الشاشة، ولو ارتكب ذنباً. ربما يكون السؤال الوجيه في وجه الدولة الكريمة لماذا يضطر رجل في هذا العمر لأن يبذل هذا الجهد ليحصّل لقمته!
عموماً لا نعرف في مرمى منّ يسجّل هؤلاء الإعلاميون أهدافهم، وكيف يمكن تحقيق غاية الإعلام في التوعية والتنوير بهذه اللغة الحادة، والصيغة الاستعلائية، والمنطق العدائي، في بعض الأحيان. هل ينجز هؤلاء تحقيقات استقصائية تفضح حيتان المال وتجّار الحرب، ومضاربي الليرة والمتحكّمين بلقمة الشعب السوري على كثرتهم؟! ربما لو تجرأوا على فعل ذلك مرّة واحدة، كنّا سنقول حقّهم. لكن الشعب السوري المكلوم بعد سنوات حرب جائرة، وحصار اقتصادي، وتهاو خدماتي، ووباء جديد بدأ يتفشى، يحتاج لغة ليّنة وصيغة رحيمة حتى يستمع، وتلك لغة المحترف والواثق بنفسه خاصة عندما يخاطب جمهوراً مثقلاً بالوجع!