هي أشبه «بحالة حرب».. هكذا وصّف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مواجهة انتشار وباء كورونا، في إطلالته الأخيرة التي خصّصت حصراً، وعن غير عادة، لقضية واحدة. وفي الحروب يُغربل الإعلام القادة، يعرّي أدوارهم المخْبُوءة. فيها «يميّز الخبيث من الطيّب»، والوطنيّ عن سواه ممن يدعو لإشاعة الفوضى والتشويش الإعلامي والتوليد المنظّم «للعنف». يقول يوزف غوبلز، وزير الدعاية السياسية لهتلر، إن الإعلام مثل «المدفعية» التي تقصف المجتمعات المستهدفة، فتوطئ للهجوم المادي، وتشلّ القدرة على المقاومة. وفي خطاب في لورنمرغ عام 1929 قال هتلر علناً أن «الإعلام أوصلني إلى الحكم، وبه سوف أتمكن من غزو العالم». والغزو الإعلامي هو غزو على كل صعيد، في السلاح والثقافة.. والوباء أيضاً. يستطيع الإعلام، السلاح الأمضى في هذه المرحلة، أن يقودنا لأن نستيقظ يوماً، وفي أقرب وقت، لنجد «عدوّنا ميتاً»، بالحدّ الأدنى من الصعاب للقضاء عليه. وهو ما يحصل تماماً، دون مقارنة، في الكثير من الحروب التي أسقطت الخصم بفضل الإعلام والدعاية.اختلف الخطاب الإعلامي للشخصيات الرئيسيّة في البلاد التي طاولها وباء كورونا. اعتمد رئيس الوزراء البريطاني، مثلاً، بوريس جونسون، على صناعة الرعب وتشكيل صدمة للشعب، إذ خرج عليهم قائلاً: «استعدوا لفقد أحبائكم». الصدمة التي بناها جونسون، على تناقض تصنيفها لدى المختصين، دفعت البريطانيين إلى تحمّل المزيد من المسؤولية، بجدية صارمة. ربما كذلك، إلى إضعاف قدرة البعض على المقاومة. مقاومة أي وباء يتأثر علاجه بصحّة المصاب النفسيّة. أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فقد انتقل من مرحلة «الاستهزاء» بالوباء قياساً بعدد وفياته، وفي خطوة واحدة، إلى إعلان حالة الطوارئ بعد ثلاثة أيام، دونما أي تمهيد يذكر. هي صدمة أيضاً، وفي بعض الحالات، أداة للدول لتمرير سياساتها أثناء الكوارث العامة، في استغلال لانشغال الشعب بصدمته، فتحرفه عن خياراته الصحيحة.
في لبنان، تعدّد الخطاب الإعلامي للأزمة. استغلّ بعض السياسيين والإعلاميين التصويب على الحكومة وأدائها، وقد شُنّت لذلك الحملات الإعلاميّة والرقميّة. في الوقت الذي يحتاج فيه اللبنانيون إلى الوحدة، والالتفاف حول الدولة وكادرها الطبي والصحي. وبينما خرج السيد نصرالله بخطاب «الوعي» متناسياً مناكفات الخصوم، سارع رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، إلى تأجيج النفوس المحتقَنة أصلاً، بنقله خبراً عن «لوموند» دون تحقّق. وفي ذلك، ليس قلّة دقة فحسب، إنما تمنٍّ للإمساك بطرف عصاه، التي يصطاد بها خصومه. في السياق ذاته، أعلنت قناة mtv حالة الطوارئ وراحت تبحث عن أماكن لمعالجة غير اللبنانيين من كورونا، بدلاً من تسخير منبرها لتشكيل الوعي الصحّي لمواجهة انتشار الفيروس. وهذا كلّه، لا يعدو كونه حلقة من ذبذبة تحريضية ضدّ شريحة واسعة من الشعب، لتصفية الحسابات والاستثمار السياسي. التصويب الاعلامي على المصابين القادمين من إيران ليس بعيداً عن ذلك. علماً أن 12 شخصاً منهم تسببوا في عدوى خمسة أشخاص، بينما تسبب شخص واحد قدم من إيطاليا في عدوى 34 فرداً. الفيروس واحد مهما كان مصدره، لكن عبثاً جرى تطييفه منذ اللحظة الأولى. والمهم الآن، هو الدور الذي تلعبه السلطة الرابعة في خضّم الأزمة، وأي مسؤولية تحملها في التوجيه وتكوين المعرفة. قدّمت بعض الوسائل الإعلامية في خطابها للمسنين شبح الموت على طبق من فضة. «كورونا يقتل المسنين»، وقع هذه العبارة عليهم كان أشدّ وطأة، وهم الأحوج لنا في هذه المرحلة. صحيح أن من وظائف الإعلام الأساسية تنبيه الجمهور إلى المخاوف المحتملة، لكن من دون تهوين للنفس، بل بالتمييز بين ضرورة نقل الوقائع بموضوعية والتمادي في تصوير سوداويته. وفيما يتفق المتخصصون على دور وسائل الإعلام في توجيه سلوك الجمهور وتلقين المنظومة المعرفية المنزوعة من سياقها التاريخي، لا تزال معظم هذه وسائل في لبنان غير قادرة على تقديم نموذج يضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار. والإعلام العاجز عن مخاطبة العجزة مخاطبة رحيمة، وعن التخفيف عن المرضى وأهاليهم، وتوجيه سلوك اللامبالين، هو إعلام عقيم. لقد تجلّت هشاشة الإعلام في الأيام الماضية، وظهرت كعادتها، ترددات غياب السلطة الرقابية على منصات التواصل، والشائعات التي تُثقل كاهل المواطن أكثر من وباء محتمل. في الواقع، يحصد القصور المطرد في الخطاب الاتصالي والإعلامي للدولة، وفشل الدولة في إدارة الأزمة إعلامياً، نتائج كارثية. ربما نسي البعض، أن تعزيز إظهار المعلومات الإيجابية على الرغم من تضخّم الواقع السلبي، يساعد في التخفيف من وطأة الأزمة والإنهزامية لدى المواطنين في الملمّات. ليس بعيداً ما حصل في اليمن في السنوات الماضية، مع تفشي وباء الكوليرا وتدهور وإنهاك النظام الصحي هناك، الذي وقف عاجزاً أمام مواجهته. وفي إطار المواجهة المتكاملة للوباء، تم التنسيق بين المركز الوطني للتثقيف والإعلام الصحي والسكاني والمنظمات الدولية: منظمة الصحة العالمية واليونيسف، بما تمتلكه هاتان المنظمتان من خبرات في مواجهة الأوبئة المعدية، لتنفيذ تدخلات استراتيجية لمحاصرة الوباء والوقاية منه، تمثلت أبرزها في حملات توعوية إعلامية وطنية.
لقد حظي «إعلام الأزمات» باهتمام واسع في العقود الماضية، بكل وسائله التقليدية والجديدة، المقننة والبديلة وإعلام المواطن. وقد برز الاهتمام بالجوانب الاتصالية والإعلامية في إدارة الأزمات مع التطور التكنولوجي والتغير المجتمعي المصاحب له، إلا أن تأثيرات منصات التواصل الاجتماعية بإعادة توجيه الرأي العام والتشويه السياسي الذي تمارسه، إضافة إلى هذا الكمّ الهائل من الرسائل الإعلامية التي تُقدّم يومياً، جعلت من العامة غير قادرين على إدراك حقيقة الموقف. وبدلاً من تمكين المواطنين بالمعلومات اللازمة، تلعب بعض وسائل الإعلام، التي تسيطر عليها قوى سياسية معروفة، دور الجلاد الذي ينتهز الفرصة لتصفية حساباته.
حسناً فعلت الحكومة في ضمّ بند يتعلق بالتنسيق مع وسائل الإعلام في مقرراتها الأخيرة حول التعبئة العامة، «بشأن البرامج والتحقيقات المتعلقة بفيروس كورونا وكيفية التعاطي معه»، لمنع توهين العزائم، وللسماح في الوقت ذاته بالتدفق الحرّ للمعلومات، على الرغم من أن الإعلام في لبنان لا يخضع بحسب القانون لأي وصاية أو سلطة رقابية مسبقة. لكن لعل في ذلك خطوة نحو الإرتقاء الإعلامي إلى مستوى المسؤولية الوطنية في هذه المرحلة الدقيقة.