جوهرة تامة مصقولة بحرفية هذا الفيلم المعنون «جواهر غير مصقولة» من توقيع الأخوين جوش وبيني سافدي. بعد عقد من عيشهما على هامش صناعة السينما الأميركية، ها هما يقدّمان عملاً يليق بسادة السينما الكبار لن يَفتح لهما أبواب هوليوود فحسب، بل سيجعل هوليوود تأتي إليهما راضخة بعد طول تمنّع. بالنسبة لنا جمهور المشاهدين خارج الولايات المتحدّة، فإن الشريط المتفجّر الإيقاع، وأداء آدم ساندلر العبقري في تقديم الشخصيّة الرئيسة، كما الثيمات العميقة ثقافية وطبقية وسوسيولوجية وسايكولوجية التي يطرحها عبر تسلسل الأحداث، أنستْنا خيبة أملنا في فيلم مارتن ساركوزي/ نتفليكس الأخير «الإيرلندي» أو The Irishman البطيء، والأقرب إلى مشروع تقاعد وداعي للعجوزين دي نيرو وآل باتشينو لا أكثر. يتتبع Uncut Gems يوميّات الجوهرجي اليهودي هاورد راتنير الذي تتآكله حمى المقامرة والثّراء السريع، فتدفعه للعيش دوماً على الزوايا الحادة وتوترات اللحظات الأخيرة. أجواء الفيلم الفجّة وطريقة الإضاءة الداكنة المستخدمة مع الأداء المقنع لطاقم الممثلين على رأسهم ساندلر (في دور هاورد راتنير)، منحت الشريط واقعيّة ثقيلة الإيقاع، ضاعفت من تأثير سلسلة المآزق المتتابعة التي يجد المشاهد نفسه يلهث لملاحقتها.
يمتلك راتنير متجراً في شارع اليهود في وسط مانهاتن في نيويورك، وهو منطقة موجودة بالفعل في المدينة يعرفها سكانها جيداً غربي الشارع 47 كـ «حيّ الجوهرجيّة»، وتقع أحداث القصّة في فضاء التقاطع بين تجارة المقتنيات الثمينة التي رُبطت تاريخيّاً باليهود، والأفروأميركيين الذين وضعوا في قفص الموسيقى والرياضة (كرة السلّة) كفضاءات مسيّجة يسمح فيها لذوي البشرة الغامقة بالصعود والإثراء من دون تهديد هيمنة الجنس الأبيض. هاورد اليهودي ثقافة ومجتمعاً، يبدو رغم كل مثالبه الظاهرة (الخيانة الزّوجيّة، والسهر خارج المنزل، والمقامرة الدائمة، والتعامل بالرّبا الفاحش، وترويج البضائع المهربّة أو المسروقة) رجلاً نبيلاً لا لصّاً، ضحيّة لا مجرماً، يعيش متأرجحاً بين احتقاره لنظام عيش الطبقة العليا ورغبته الجامحة في مجاراة ثرائهم والانضمام إليهم. يدفعه سباق الفئران الرأسمالي لبذل غاية جهده في إطار صنعته المتوارثة المبنية على أوهام التعلق بالأشياء المادية ـــ الفيتيشيزم وفق المفهوم الماركسي ـــ لتحقيق النجاح الموهوم، وعبور الخط الفاصل بين البرجوازيّة الرأسماليّة وتلك الرثّة. وحتى علاقته مع عشيقته ـــ غير اليهوديّة التي تعمل معه في المتجر (تلعب دورها العذبة جوليا فوكس) ـــ تبدو إنسانياً أعمق بكثير من مجرد علاقة جسدية «آثمة» محض، فهي الوحيدة في هذا العالم التي تفهمه بحقّ، ويكون دائماً معها على حقيقته من دون قيود الطقوس والتقاليد ومتطلبات الزواج (الفاشل)، وتمنحه روحها قبل جسدها.
هاورد يبدو من الخارج ثرياً. هو يمتلك متجراً يقصده زبائن مشهورون يلتقط معهم صور سيلفي، ويقود مرسيدس، ويسكن منزلاً كبيراً يضمّ عائلته، ويستأجر شقّة في بناية مكلفة من أجل إقامة عشيقته. لكن تدريجاً، ندرك أن ذلك مجرّد بناء شاهق من ورق، أساساته مزروعة في قلب مشروع البونزي الهائل المسمى الرأسماليّة المتأخرة، فثروة هاورد ما هي في الواقع إلا تناقل للأموال ومضاربات ومراهنات يمكن أن تتبخر في أي لحظة.
يستفيد هاورد في ما يبدو من الشبكة اليهودية لتجارة الألماس حول العالم للحصول على حجر ألماس غير مصقول سرقه عمّال يهود من منجم في أثيوبيا يديره صينيون (بغيضون حكماً وفق النظرة الأميركية). تصّور هاورد أن هذا الحجر الذي كلّفه مئة ألف دولار استدانها من قريب له يعمل في صناعة الإقراض بالرّبا الفاحش، سيجلب له الثراء السريع من خلال بيعه في السوق الأميركية بمليون دولار على الأقل. مليون دولار يسدد فيها ديونه المتضخمة ومصاريف عائلته وعشيقته المتزايدة، ويستثمر جزءاً منها لبناء ثروة أضخم عبر المراهنات وركوب المخاطر. وعندما يظهر في متجره لاعب السلة الأميركي الأسود كيفين غارنيت (يؤدي الدّور بنفسه ويقدّم عرضاً مقنعاً قلّما يقدر عليه نجوم الرياضة عندما يظهرون في الأفلام)، يعرض عليه الحجر متفاخراً، فيقع الأميركي الأسود في فيتشيزم مفاجئ تجاهه ويرجو هاورد أن يعيره إيّاه لاكتساب الحظّ في المباراة التاليّة. يوافق هاورد على ذلك مقابل الاحتفاظ بخاتم غارنيت التذكاري الضخم الذي حصل عليه كجائزة للفوز بالموسم السابق للدوري الأميركي في كرة السلّة. وهو يسرع من فوره لرهن الخاتم مقابل مبلغ نقدي يستثمره في المقامرة على نتيجة مبارة غارنيت التالية، بينما يكون المشاهد على قناعة أكيدة بأن هاورد مقبل على كارثة أخرى جراء تشابك الحسابات المتقاطعة التي يرقص بينها.
يقدّم الفيلم مشاهدة مستفزّة وغير مريحة


أحداث الفيلم في أساسها تجسيد لواقع الرأسمالية المتأخرة عبر تتبع لحلقات إدمان هاورد على المقامرة بأموال الآخرين في مضاربات غير مرتبطة مباشرة بالإنتاج الفعليّ وتقوم حصراً على المتاجرة بفيتشيزم أثرياء النظام، كما دافعه المثير للإعجاب - بشكل ما - جرّاء رغبته الطاغيّة في تحقيق النجاح المادي والانتقال إلى نادي الأثرياء. هاورد في قلب تلك المطحنة الدائمة لا يرى ما يراه مشاهدو الفيلم: الأزمة المؤجلّة التي ستنتهي حتماً اليوم أو غداً إلى مأساة تامّة. هاورد في ذلك ليس إلا نسخة ملطفة من المضاربين الماليين والسياسيين البرجوازيين الذين أجلوا سقوط مشروع البونزي الرأسمالي في الأزمة الماليّة العالميّة الأخيرة عام 2008 عبر نقل الأموال من جيوب دافعي الضرائب إلى البنوك، وهم لا يريدون أن يروا أن الأزمة هي ديدن الرأسماليّة ومادتها التي عجنت منها، وأن الكارثة آتية لا ريب فيها.
ثقافياً، يطرح الفيلم معضلة اليهودي – الأميركي المعاصر – بكثافة (الأخوان سافدي والممثل ساندلر يهود فخورون بيهوديتهم). بطل الفيلم يحمل تراثاً خاصاً يمنحه هويّة ورضى على مستوى ما (الطقوس الاحتفالية، والفولكلور والعلاقات العائليّة وحتى مهنة لها ألقها)، لكنّه أيضاً يثقل كاهله في اللاوعي، ويفرض عليه عيشاً متناقضاً: فهو يعتنق بالفعل دين الرأسمالية، ويخوض لعبتها بكل حرفيتها لكن ضمن تراثٍ حَصَرَ أجداده في مهن التجارة بالأموال القذرة والرّبا والرهن التي دُفعوا إليها دفعاً في عصور التفتيش الإسباني قبل أن تصبح جزءاً من البنية الجينيّة لليهود. حتى في العلاقات العائليّة المتقاربة شكلياً، فإن أعدى أعدائه هم زوجته وأقرباؤه وأبناء مجتمعه القريب رغم كل المجاملات الشكليّة، وعلى أيديهم تكون النهاية. وهو في كل ذلك يمضي حاملاً كل الآلام بلا تردد، كما نبي من أنبياء بني إسرائيل لديه مهمّة ربانيّة غير مفهومة منطقيّاً، مسدّداً اللكمات لأعدائه حتى وهو يخوض معاركه الخاسرة المتتالية، ومسكوناً أبداً بحلم الوصول إلى الأرض الموعودة – الوهم حيث الكارثة.
للحقيقة، فإن Uncut Gems مع كل عبقريته في السينوغرافيا والقصّة والثيمات وأداء الممثلين، يبقى مع ذلك مشاهدة مستفزّة وغير مريحة، إذ تضع مُشاهدها في قلب الحدث المتوتر وتخطف أنفاسه وهو يترقّب تلك الكارثة المحتمة في كل وقت. حتى مع نهاية الفيلم، لا يحصل على الرضى، بل مزيد من خيبة الأمل والشعور بالعبثيّة والانسحاق أمام المنظومة المستمرة قُدُماً في أداء رقصتها القاتلة غير عابئة بجثث المتساقطين على جوانب حلبتها ذات الأضواء الفاقعة والبريق الزائف. Uncut Gems جوهرة نادرة مصقولة في كومة الهراء المسمى سينما أميركية.