يكتب الأتراك تاريخهم عبر الدراما. لا يزال كثيرون في بلادنا في مواقع القرار المهمّة، يعتبرون أنَّ الدراما والتلفزيون والروايات والكتابة عملٌ لـ «التافهين» و«السخفاء» و«إضاعةٌ للوقت وللجهد وللمال»، مع عباراتِ سخرية يمكن سماعها تتكرر معظم الوقت من نوع: «بدك تصير كاتب وتضيّع وقتك» أو «مين بعد بيقرا» أو «رواية؟ شو هالسخافة». طبعاً معظم هؤلاء، تعنيهم الكتابة التاريخية «التحقيقية» و«البحثية» التي يعرف الجميع بأنّها مملة في غالب الأحيان لمعظم الناس، وقد لا تعني لهم، وخصوصاً للأجيال الأصغر سناً.أثناء ذلك، خلال تغافل هؤلاء وتعاميهم وجهلهم أحياناً، عن دور التأريخ، وتحويله «درامياً» و«روائياً»، يتغلغل الأتراك في بيوت هؤلاء عبر المسلسلات، والأفلام، والروايات والقصص التركية، أو المترّكة. تقدّم الدراما التركية أخيراً، دراما توثيقية (Docu-drama) تركية تحت عنوان: «صعود الإمبراطورية العثمانية» (Rise of Empires: Ottoman) الذي تنتجه وتقدّمه شبكة «نتفليكس» التي تدخل معظم البيوت بلا مقابلٍ أحياناً. يروي المسلسل حكاية نشأة وصعود الإمبراطورية العثمانية، فيما يؤدي أدوار البطولة ممثلون أتراك، باتوا نجوماً بعدما دخلوا بلادنا عبر المسلسلات المدبلجة مثل توبا بويوكستون (الشهيرة بـ «لميس» من مسلسل «سنوات الضياع» الشهير). يروي المسلسل حكاية السلطان العثماني محمد الفاتح الذي يؤدي دوره سيم عظيم أوغلو. يقرّر الفاتح أن يخوض المعركة الأشهر في حياته وهي «احتلال بيزنطة» وتدمير الإمبراطورية الرومانية الشرقية. عبر حلقاته الست، يقدّم هذا الوثائقي الدرامي السلطان التركي على أنه «القوة الحقيقية في الشرق» فُتحت أمامه بوابات أوروبا وآسيا معاً. يضم المسلسل كذلك اسمين كبيرين في عالم الدراما هما النجم الإنكليزي تشارلز دانس الذي عرفه الجمهور في شخصية تايون لانيستر من مسلسل «صراع العروش»، والنجم الإيطالي توماسو بازيلي الاسم المعروف في الدراما والسينما الإيطالية.
يصنع الأتراك تاريخاً، يصبح واقعاً وحقيقةً عبر الدراما، وهي ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يصنعون فيها التاريخ كما يرغبون، فهم قدموا في السابق مسلسلات تحمل هذه الصبغة مثل: «محمد الفاتح»، «حريم السلطان» (ولو كان أقرب إلى التسلية، إلا أنه أيضاً يروي الرواية الرسمية التاريخية التركية بحذافيرها)، وغيرها الكثير. تقدم هذه المسلسلات، في معظم الأحيان، واقعاً قد لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة. واقع يصبح فيه التركي سيد حضارة المنطقة، وقائدها، وأهم ما فيها. وكما قدّم مسلسل «وادي الذئاب» تركيا والجيش والمخابرات التركية باعتبارها «سيدة المنطقة» وأقوى وأعتى وجود، يفعل التركي ذلك، من دون تعبٍ يذكر، ومن دون أن يحارب أحداً أو يستعدي أحداً. إذ من سيعادي «مسلسلاً»؟ أو «رواية»؟ يكتب هؤلاء حضارةً على مقاسهم كما فعل الصهاينة ذات يومٍ عندما «خلقوا» وهماً وأصبح دولةً لها أرضٌ وشعبٌ وتاريخ ونشيدٌ وطني ولغة. تصنع الدراما والروايات كل هذا، لأن من يستطيع رواية القصة، يصبح مالكاً لها، فتسود قصته وينسى الناس بعد سنواتٍ قليلة أصل الحقيقة. يربح الأتراك معركتهم الأهم هذه من دون أن يسيلوا نقطة دماء واحدة، ومن دون أن يتكلّفوا جندياً واحداً، حتى لناحية الكلفة: إن كلفة مسلسلٍ واحد ربما تعادل سعر صاروخٍ أو طلعة طائرةٍ قتالية واحدة. فوق هذا، تربح معظم هذه المسلسلات كلفتها وزيادة، إذ إنها تنتج في مدينة الإنتاج الدرامية التركية، بكلفةٍ قليلةٍ نسبياً (مقارنة بنظيراتها الأوروبيات كمثال)، يضاف إلى ذلك أنها لا تبيعها محلياً، بل تدبلجها لتعيد تقديمها من جديد وتكسب مالاً أكثر فيها.
يقدّم هذا الوثائقي الدرامي السلطان التركي على أنه «القوة الحقيقية في الشرق»


على الهامش، كانت الدراما السورية قبل عام 2011 والعدوان على سوريا، قد بدأت تخوض تلك المعركة وتنتصر بقوة من خلال مسلسلات مثل «اخوة التراب» أو «الطويبي» في تقديم صورتنا الحقيقية ورؤيتنا لما يحدث وحدث. مهمٌ جداً أن نتنبه إلى أن واحداً من أهداف تلك الحرب كانت القضاء على تلك الصناعة وتحويلها إلى ما يشبه الدراما اللبنانية: عارضات أزياء بعمليات تجميل ومكياج كثيف وزائف، قصص اجتماعية بائدة وسخيفة من طراز الخواجة عدنان والبيك والأبطال ذوي الأسماء التي لا تبين طوائفهم وأديانهم، ديكورات مرفهة ثرية وفقراء كاريكاتوريون، أشرار استعراضيون سخفاء. والأسوأ هو «القصص الاجتماعية» المراد تقديمها (يمكن مثلاً تقديم مسلسل «العميد» أخيراً كمثال على ما أقوله على الرغم من وجود تيم حسن وكاريس بشار في المسلسل).
ينتصر الأتراك في هذه المعركة. مسلسلاتٌ تاريخية تروي قصصهم كما يحبون، تاريخهم كما يريدون له أن يكون: مزيفاً كان أم لا، سيصبح ـــ شئنا أم أبينا ــــ جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المنطقة لأجيال تربت وتتربى على المسلسل التركي باعتباره «تاريخاً لا يقبل الشك».