يصنع الأتراك تاريخاً، يصبح واقعاً وحقيقةً عبر الدراما، وهي ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يصنعون فيها التاريخ كما يرغبون، فهم قدموا في السابق مسلسلات تحمل هذه الصبغة مثل: «محمد الفاتح»، «حريم السلطان» (ولو كان أقرب إلى التسلية، إلا أنه أيضاً يروي الرواية الرسمية التاريخية التركية بحذافيرها)، وغيرها الكثير. تقدم هذه المسلسلات، في معظم الأحيان، واقعاً قد لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة. واقع يصبح فيه التركي سيد حضارة المنطقة، وقائدها، وأهم ما فيها. وكما قدّم مسلسل «وادي الذئاب» تركيا والجيش والمخابرات التركية باعتبارها «سيدة المنطقة» وأقوى وأعتى وجود، يفعل التركي ذلك، من دون تعبٍ يذكر، ومن دون أن يحارب أحداً أو يستعدي أحداً. إذ من سيعادي «مسلسلاً»؟ أو «رواية»؟ يكتب هؤلاء حضارةً على مقاسهم كما فعل الصهاينة ذات يومٍ عندما «خلقوا» وهماً وأصبح دولةً لها أرضٌ وشعبٌ وتاريخ ونشيدٌ وطني ولغة. تصنع الدراما والروايات كل هذا، لأن من يستطيع رواية القصة، يصبح مالكاً لها، فتسود قصته وينسى الناس بعد سنواتٍ قليلة أصل الحقيقة. يربح الأتراك معركتهم الأهم هذه من دون أن يسيلوا نقطة دماء واحدة، ومن دون أن يتكلّفوا جندياً واحداً، حتى لناحية الكلفة: إن كلفة مسلسلٍ واحد ربما تعادل سعر صاروخٍ أو طلعة طائرةٍ قتالية واحدة. فوق هذا، تربح معظم هذه المسلسلات كلفتها وزيادة، إذ إنها تنتج في مدينة الإنتاج الدرامية التركية، بكلفةٍ قليلةٍ نسبياً (مقارنة بنظيراتها الأوروبيات كمثال)، يضاف إلى ذلك أنها لا تبيعها محلياً، بل تدبلجها لتعيد تقديمها من جديد وتكسب مالاً أكثر فيها.
يقدّم هذا الوثائقي الدرامي السلطان التركي على أنه «القوة الحقيقية في الشرق»
على الهامش، كانت الدراما السورية قبل عام 2011 والعدوان على سوريا، قد بدأت تخوض تلك المعركة وتنتصر بقوة من خلال مسلسلات مثل «اخوة التراب» أو «الطويبي» في تقديم صورتنا الحقيقية ورؤيتنا لما يحدث وحدث. مهمٌ جداً أن نتنبه إلى أن واحداً من أهداف تلك الحرب كانت القضاء على تلك الصناعة وتحويلها إلى ما يشبه الدراما اللبنانية: عارضات أزياء بعمليات تجميل ومكياج كثيف وزائف، قصص اجتماعية بائدة وسخيفة من طراز الخواجة عدنان والبيك والأبطال ذوي الأسماء التي لا تبين طوائفهم وأديانهم، ديكورات مرفهة ثرية وفقراء كاريكاتوريون، أشرار استعراضيون سخفاء. والأسوأ هو «القصص الاجتماعية» المراد تقديمها (يمكن مثلاً تقديم مسلسل «العميد» أخيراً كمثال على ما أقوله على الرغم من وجود تيم حسن وكاريس بشار في المسلسل).
ينتصر الأتراك في هذه المعركة. مسلسلاتٌ تاريخية تروي قصصهم كما يحبون، تاريخهم كما يريدون له أن يكون: مزيفاً كان أم لا، سيصبح ـــ شئنا أم أبينا ــــ جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المنطقة لأجيال تربت وتتربى على المسلسل التركي باعتباره «تاريخاً لا يقبل الشك».