منذ فترة طويلة، تحاول «دويتشه فيله» إيجاد مكان في العالم العربي لافتتاح مكتب بعد إقفال مكتبها في القاهرة بفعل الظروف السياسية السائدة في مصر. اليوم، تفتتح المؤسسة الإعلامية الألمانية العامة المموّلة من الموارد الضريبية الفيدرالية مكتبها في بيروت رسمياً، وتحديداً في مبنى مسرح «دوّار الشمس» في الطيونة (الطبقة الثانية). أربعة أسباب دفعت القائمين على DW إلى اختيار العاصمة اللبنانية، هي: هامش الحرية المرتفع الذي تتمتع به «ست الدنيا» مقارنة بمحيطها العربي، موقعها الجغرافي الذي يسهّل تغطية الأحداث الجارية من حولها كونها تتوسّط مناطق أزمات في الشرق الأوسط، وتوافر خدمات إعلامية مناسبة فيها، فضلاً عن أنّها تحتضن منذ أعوام «أكاديمية دويتشه فيله» التابعة للمحطة، والتي ستكون مع المحطتين الناطقتين بالعربية والإنكليزية تحت سقف المقرّ الوليد. هذا ما أكدّته لـ«الأخبار» مديرة البرامج غيردا موير خلال دردشة صباحية أجريناها معها في الفندق البيروتي الذي تقيم فيه حالياً. لكن لماذا اتخذ قرار افتتاح مكتب بيروت اليوم؟ «أوّلاً، بالتأكيد هناك اعتبارات مالية دائماً في حسابات أي مؤسسة، وخصوصاً إذا كانت عامة. ثانياً، هناك تغيير في استراتيجية DW في السنوات الأخيرة يذهب نحو تأسيس مكاتب لها خارج ألمانيا. وكان التركيز في البداية على آسيا وأفريقيا، والآن أتت الخطوة اللاحقة بتوفير اللازم للوصول إلى لبنان»، تقول موير. ثم تضيف: «لكن الإقدام على الخطوة اليوم لا يعني أنّنا لم نكن مهتمين سابقاً بتغطية أخبار العالم العربي. لكنّنا كنا نتعاون مع مستكتبين منتشرين في مناطق مختلفة. أما اليوم، فأصبح لدينا جسم رسمي هنا، علماً بأنّ لدينا مكتباً في القدس». تشدّد الصحافية الشهيرة التي تشغل هذا المنصب منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 على أنّ الاستراتيجية التي ستعتمد في نقل الأخبار وتغطيتها ترتكز أساساً على الإثبات للمتلقي «أنّنا موجودون على الأرض، وإيصال المعلومات اللازمة المتعلقة بمختلف المجالات للمهتمين، ونقل الأخبار من داخل البلد بالشكل الصحيح من دون الاعتماد على وكالات الأنباء. نريد أن نكون صوتاً أصلياً ونقدّم قصّتنا حول ما يجري».
الجمهور العربي اعتاد الصور النمطية التي ينقلها الإعلام الأجنبي الوافد إلى منطقته أو الناطق بلغة الضاد والقوالب المعلبّة الجاهزة التي يتم من خلالها تناول قضاياه. هاجس نقلناه إلى غيردا موير التي لم تنكر أنها «حقيقة مؤسفة. لكن الأكيد أنّ DW كمؤسسة دولية ناطقة بالعربية تعمل جاهدة على تجنّب ذلك. نحاول أن نكون قريبين من هموم الناس ومشاكلهم. أحد أهداف وجود مراسلين لنا في هذه المنطقة هو نقل الصورة كما هي. وبرأينا، ما يساعد في ذلك أنّ مديرها عربي، وبالتالي هو أكثر الحريصين على الابتعاد عن الكليشيهات. الوضع مختلف بين مؤسسة إعلامية تبث داخل ألمانيا وأخرى مثل «دويتشه فيله» تبث محتواها بـ30 لغة ولديها موظفون من 60 ثقافة و60 بلداً. لذلك، المسألة لا تنطبق علينا». في هذا الإطار، تصرّ موير على أنّ «الرسالة الأساسية التي نحاول إيصالها تتمثّل في إعطاء صورة متكاملة عن الـDW بأنّها مؤسسة عامّة هدفها التغطية الإعلامية الموضوعية الكاملة. الحقيقة هي الأساس، ولا شيء يعلو فوقها مهما كانت الضغوط». لكن عندما تتحدّث جهة إعلامية غربية عن الموضوعية، تُطرح تلقائياً علامات استفهام حول هذا المفهوم، سيّما لناحية تناول مواضيع حسّاسة وجوهرية متعلقة مثلاً بالقضية الفلسطينية والعدو الإسرائيلي. حملنا هذه التساؤلات إلى مدير مكتب بيروت، باسل العريضي، الذي أكد أنه «لا أرى في المسألة ما يثير الريبة أو القلق. الصحافي هو عيون المشاهدين وآذانهم، والصحافة أسلوب حياة لا مهنة. واجباتي كصحافي أن أنقل الأمور كما هي وترك القرار للرأي العام لتكوين موقف. رأيي أدوّنه على مواقع التواصل الاجتماعي أو في مقال رأي أنشره عبر منصة ما، لكن في حالة التغطية لا يحق لي أن أعطي رأياً وتوجيه المادة الصحافية بعيداً عن الحقيقة. أنا شخصياً أستطيع القول إنّ أدائي خلال السنوات الماضية أثبت أنني تمكنت من الموازنة بين كل أطراف التركيبة اللبنانية بكل أزماتها وتناقضاتها، ولم أُحسب يوماً على أحد. وهذا في غاية الصعوبة»، يوضح الصحافي الذي رافقنا على الشاشة الصغيرة منذ حوالى 15 عاماً. ثم يتابع: «في التطوّرات الأخيرة جنوباً (استهداف حزب الله لآلية عسكرية عند طريق أفيفيم شمال فلسطين المحتلة)، غطّينا من بيروت وقدّمت الرواية اللبنانية للموضوع كما هي. أما مكتب المحطة في القدس، فأعطى وجهة النظر الأخرى. هكذا، أنا في مكان آمن مهنياً».
محاولة للاقتراب من الناس ونقل همومهم


على الصعيد الشخصي، يرى العريضي أنّ للعمل الصحافي في لبنان إطاراً محدّداً وسقفاً ربّما يصعب تخطيه. مع الوقت، يصبح الطموح «أكبر» من هذا النطاق الضيّق. بناءً على ذلك، شكّلت DW بالنسبة إليه الفرصة التي ينتظرها بعد مراكمة خبرة واسعة في مختلف أشكال التغطيات. يدرك باسل أنّ التحديات كثيرة والمسؤوليات أكثر، لكن ما يريحه هو «أسلوب وروحية العمل الموجودة في هذه المؤسسة، خصوصاً مع المسؤولين المباشرين. هذا كفيل بتخفيف حجم الأعباء والضغوط المهنية. هناك رهان على المستوى الشخصي وعلى مستوى المؤسسة بأن نكون على قدر هذه المسؤولية. أنا واثق من النجاح. فالفريق متجانس ومؤلف من أشخاص ذوي خبرة». الكادر صغير نوعاً ما، يتألّف من باسل وزميلته اللبنانية رزان سلمان، وهما على «تواصل مباشر مع مدير القسم العربي ناصر شرّوف ومع محمد إبراهيم». وبعيداً عن السياسة، يشير باسل إلى أنّ الأولوية ليست للـ«ترندات»، بل للقضايا الملحّة والآنية كالأزمات الاجتماعية واللاجئين وحقوق الإنسان والمرأة، قبل أن يختم بالتأكيد أنّه «نحن مدينون لبيروت بمساحة الحرية التي منحتنا إياها وبصقل شخصياتنا كصحافيين رغم قسوتها. هذا المكتب اليوم هو دليل إضافي على أنّ العاصمة اللبنانية هي «هايد بارك» العالم العربي». بعد خمس سنوات في «هيئة الإذاعة البريطانية» حيث عملت معدّة برامج، تأتي رزان سلمان إلى DW: «بدأت العمل الصحافي مع تغلغل الإرهاب في منطقتنا والمأساة الناتجة عنه». أما اليوم، فتبدو سلمان على يقين بأنّها تلبّي «طموحي في العمل في مجال الأخبار، كوني أشعر بأن هذا ما ينقصني مهنياً. عندما أتيحت أمامي هذه الفرصة في مؤسسة كهذه لم أتردّد. أنا منحازة إلى كل المواضيع المتعلقة بحقوق الإنسان لكوني ناشطة أيضاً في هذا المجال».