دمشق | خلال السنوات الماضية، تاهت الكوميديا السورية في رمال التهريج والتصنّع، وابتعدت عن أهدافها الأولى التي تتمثل في عكس روح شعبية قريبة من وعي المشاهد، إضافة إلى تلاشي المتانة والفكرة المبتكرة في غالبية النصوص المقدمة للشركات الفنية. رغم أنّ هذا النوع حصد حصّة من مجمل الإنتاج السوري، إلا أنه لم يخرج حتى اليوم مسلسل يوازي ألق ما قدمه روّاد الكوميديا الأصيلون، والقوّة التي انطلقت فيها الكوميديا السورية منذ حقبة الستينيات التأسيسية. يكفي أن نتذكر ما حققه «مسرح الشوك» الذي أسسّه الراحل عمر حجو (193ـــ /2015) من حضور عربي ملفت، شهد له النقّاد، واعتبروا بأن بلداً يسمح بتقديم هذا النوع من الفن، هو حتماً يتمتّع بهامش واسع من الحرية والديمقراطية! حينها، أطلق حجو كوميديا اللوحات الناقدة والساخرة، من خلال عرض مسرحي بعنوان «مرايا».
حسام الرنتيسي ورنا الأبيض

ثم تشارك مع الكوميديان القدير دريد لحّام في تقديم مسرح «الكباريه السياسي» (الساعة العاشرة). شرّحت عروض هذا المسرح أسباب هزيمة الـ 1967 بجرأة وشفافية لا تنقصها الحرفة والمتعة، ليحصد تعاونهما مع الشاعر والكاتب الراحل محمد الماغوط نجاحاً مدويّاً من خلال ثلاثية «ضيعة تشرين» و«غربة» و«كاسك يا وطن» فيما كان نهاد قلعي ودريد لحّام يقدمان أعمالاً تلفزيونية من شاكلة «حمّام الهنا» و«صحّ النوم» ما زال حضورها مبهجاً حتى اليوم. لاحقاً، أعيد تدوير صيغة اللوحات المسرحية الناقدة ذاتها، لكن في شكل تلفزيوني في ثمانينيات القرن الماضي على يد الكوميديان ياسر العظمة. ومن ثم أتت النسخة المعاصرة الأكثر تطوراً سنة 2000 بجهود الثنائي باسم ياخور وأيمن رضا في مشروع «بقعة ضوء» (إخراج الليث حجو). بعدها قدّمت أعمال مشابهة مثل «عربيات» و«ع المكشوف» مع تكريس سلسلة «بقعة ضوء» بشكل شبه سنوي، إلى أن وصلت في أجزائها الأخيرة إلى ترّهل واجترار للأفكار ذاتها.
هذا العام، كان يفترض أن توكل شركة «سما الفن» إخراج جزء جديد من سلسلتها الساخرة «بقعة ضوء» إلى المخرج عامر فهد، كونه تمكّن سابقاً من إعادة الألق للمشروع، لكنّها توقفت فجأة. في موازاة ذلك، قررت شركة «إيمار الشام» إنتاج مسلسل قيل إنّه شبيه للسلسلة من حيث الفكرة، يحمل عنوان «كونتاك» (كتابة شادي كيوان ومعن سقباني وسامر سليمان وآخرين بإشراف رانيا الجبّان وإخراج حسام الرنتيسي وبطولة: أيمن رضا، أمل عرفة، حسام تحسين بيك، محمد حداقي، غادة بشّور، شادي الصفدي، ومجموعة من الممثلين الشباب وخريجي «المعهد العالي للفنون المسرحية»). رغم السرية المطلقة التي تحيط بها الشركة المنتجة أفكار لوحاتها والمنطق الذي تقدّم به مسلسلها الجديد، إلا أن «الأخبار» التقت بعض أفراد فريق العمل، وعلمت منهم بأن المسلسل كناية عن لوحات متصلة منفصلة، يقدّم صيغة حداثية لكوميديا ناقدة تلتقط سكّة التعافي التي تسير عليها البلاد، وتصوغ من مرحلة ما بعد الحرب، مفارقات درامية، صالحة لأن تكون مادة كوميدية. يتكئ العمل على مجموعة أنماط وكركتيرات ثابتة، مع تحوّل للحدث بشكل مستمر، ومحاولة تدوير رشيق للحكايات المقدّمة. يتطرق المسلسل على سبيل المثال إلى الحمّى التي تخلّفها السوشال ميديا، والاستخدام الخاطئ لها، ودخولها في أدق التفاصيل اليومية لجميع شرائح الشعب السوري. كما يحاكي قضايا الفساد بشكله المحلي والعالمي، ثم يولي اهتماماً خاصاً لموضوع الهجرة وسفر ملايين السوريين خارج بلادهم، إضافة إلى مواضيع متنوعة مأخوذة من صلب الواقع الجديد الذي أفرزته السنوات السبع الماضية.

شادي الصفدي خلال التصوير

في حديثها مع «الأخبار»، تقول رانيا الجبّان المديرة الفنية للشركة المنتجة والمشرفة على النص: «يقدم العمل مقترحاً حكائياً جديداً، سمَته الأساسية الطزاجة ومواكبة الظرف الراهن، بلغة موغلة في الحياتي واليومي المعاش وبأسلوب تهكمي ساخر، بشرط ألا يكون المسلسل عبارة عن لوحات منفصلة بشكل كليّ، ولا مجرد مسلسل متصّل، بمعنى أن يجمع بين النوعين بمنطق جديد من حيث الشكل والمضمون، ومن خلال أنماط رئيسية موجودة دائماً، وتواتر ضيوف جدد على كلّ الحلقات. لن نتمكّن من التوضيح أكثر لترك فسحة للتشويق ومتعة الاكتشاف خلال المشاهدة في رمضان المقبل». وعن مدى توافر الظرف الإنتاجي المناسب، تجيب بالقول: «قدّمت الشركة أقصى ما يمكن أن تقدمه، ضمن معطيات وظرف السوق الحالي، وصعوبة البيع للمحطات العربية، مع الأخذ في الاعتبار بأن يكون المشروع شبابياً من دون أن يتخلى عن مفردات رئيسة في الكوميديا السورية مثل استقطاب نجوم مرموقين في هذا النوع ينتظر الجمهور تواجدهم كونه اختبر مقدراتهم الخلّاقة في صناعة الضحك والمتعة والفائدة في آن معاً».
مقترح حكائي سمَته الأساسية الطزاجة ومواكبة الظرف الراهن، بلغة موغلة في الحياتي واليومي المعاش


لكن ما هو جوهر اختلاف هذا العمل عن «بقعة ضوء» مثلاً؟ يجيب أحد كتّاب المسلسل السيناريست الشاب شادي كيوان: «يقدّم العمل لوحات منفصلة، لكن هناك شخصيات وأنماط ثابتة، وبيئة واحدة واضحة المعالم، ذلك هو الناظم العام لبنية المسلسل وشكله. يمكن القول بأنه من النوع المتصل المنفصل لكنّه يختلف من حيث اقتراحه الدرامي عن أي عمل آخر، رغم توافر هذا النوع وتكريسه في جميع أنحاء العالم». ويوضح كاتب «أزمة عائلية»: «هناك سبعة أنماط متواجدة باستمرار، ولكلّ حلقة عنوان مختلف يكتب عليها اسم الكاتب».
بدوره، لا يعثر النجم أيمن رضا من خلال ما قدّمه حتى الآن على شيء يسمح له الحديث للإعلام. لذا يكتفي بالقول: «صوّرت حتى الآن لوحتين، وتوقفّت بسبب خضوعي لعمل جراحي طارئ، وسأغيب عن التصوير لمدة أسبوع، ثم أعود إلى العمل مجدداً. لم أفكّر في الاعتذار عن المشروع نهائياً، بسبب قربي من هذا النوع على مدار زمني طويل. أضاف إلى ذلك أنّ البدائل بالنسبة للممثلين صارت جاهزة، فما أن تعتذر عن دور بسبب ملاحظات معينة أو مآخذ على الأجر مثلاً، حتى يقبل به فوراً أحد زملائك»! يفصح الكوميديان السوري بالقول: «يسعى فريق «كونتاك» لإجادة آلية مختلفة عما قدّم من مشاريع مشابهة، من خلال نصوص شبابية، ورؤية إخراجية تواكب هذه اللغة الراهنة. ومن المفترض أن يجد المسلسل طريقه للعرض، ويحجز لنفسه جمهوراً يحب سوية معينة من اللعب الكوميدي المتنوّع يمكن أن يصل إلى أقصاه في مثل هذه الأعمال».