عملت السلطات السعودية كل ما يلزم لقتل جمال خاشقجي معنوياً قبل قتله وتقطيعه في القنصلية السعودية في اسطنبول، بحسب الروايات المتداولة... هو الذي غادر المملكة خائفاً ومترقّباً، بعد منعه من الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي والنشر في صحيفة «الحياة»، حيث كان «الكاتب الملك» في صفحة الرأي التابعة لها طوال خمس سنوات سبقت اختفاءه الدرامي. بين اليوم والأمس، يستمر كتبة النظام في رفع «قميص جمال»، وهو الذي كان زميلهم في الخط والمنهج، ولم يترك فرصة من دون تأكيد انحيازه التام إلى النظام الملكي. البداية كانت مع كتابته مقالاً في «واشنطن بوست» قال فيه إنه لم يعد يعرف السعودية، منتقداً تراجع الحريات بعد سلسلة الاعتقالات التي طالت المئات في المملكة العام الماضي. على إثرها، كتب المدير السابق لقناة «العربية»، عبد الرحمن الراشد، تغريدة قال فيها إنّ «جمال إخواني اختار الالتحاق بجماعته الإخوان لا أكثر ولا أقل». الراشد نفسه قال بعد إقالة خاشقجي من رئاسة صحيفة «الوطن» عام 2003، بحجة سماحه بنشر مواد تنتقد الفكر السلفي بعد تفجيرات لـ«القاعدة» داخل المملكة، بأنه «من أشجع الصحافيين»! إذاً، بمجرد انقلابه وخروجه من المملكة عام 2017، طرحت صحف سعودية سؤالاً مشروعاً بنظرها عن ابن النظام البار وأحد صناع الرأي العام المقرّبين من العائلة الحاكمة: «لماذا يرتدي جمال خاشقجي قبعة المناضل؟»، متهمة إياه بركوب الموجة الوحيدة أمامه وهي «الإخوان وتركيا وقطر». كما وجهت له تهمة التلاعب بالقارئ الغربي المغيّب عن واقع الحال في السعودية بنظرها.
باتريك شابات

هذه المرة، ترافق «اختفاء» خاشقجي مع عودة عبد الرحمن الراشد إلى الكتابة عنه في «الشرق الأوسط»، قائلاً «جمال ضحية الحرب القائمة في المنطقة. معركته امتداد لسلسلة معارك إعلامية وسياسية، كلٌ يريد استغلالها في قضيته. في أزمة اختفاء خاشقجي، الهدف الأخير استخدامها لتصوير الحكومات، والسعودية هنا تحديداً، على أنها شريرة، كوريا شمالية جديدة أو روسيا». «عكاظ» التي جندت صفحاتها للدفاع عن موقف المملكة وتبني كل ما يصدر من مسؤوليها، تستمر في نشر كل ما يمس بسمعة خديجة جنكيز، خطيبة خاشقجي، التي فضحت إخفاء السعودية له. مرة تعكس تبرير ترامب بقولها «خاشقجي اختفى في تركيا... ما شأن السعودية؟»، ومرة تخترع عناوين مسلّية من نوع «هل يكتب مؤلفو «المسلسلات التركية» أخبار الأناضول؟»، و«تركيا القطة التي تأكل صغارها»... وفي الصحيفة نفسها، وصف الروائي السعودي عبده خال ما حدث لصديقه السابق، بفيلم أكشن، ساخراً من فكرة تقطيعه «إرباً إرباً». ولتكتمل أركان الكوميديا السعودية السوداء، سأل الكاتب في «عكاظ» محمد الساعد: «هل صفى جمال خاشقجي نفسه بنفسه كنتيجة طبيعية لاقترابه من خطوط النار والاشتباكات المعقدة والخطيرة بين الأنظمة، وذهب ضحية طموح شخصي لا يمكن لمثله أن يقوم به. فقد كان يرى نفسه شريكاً للسياسيين وأجهزة الاستخبارات والتنظيمات الإرهابية ومنظّراً في السياسة، بينما لم يره البعض إلا مجرد صحافي وكاتب رأي أو حتى جهادي سابق، لكنه أبداً لم ولن يكون هنري كسينجر المنطقة»، في حين سخرت صحيفة «الوطن» من كونها مجرد «مسرحية لمستر بن»، مطالبة السلطات التركية بمحاسبة قناة «الجزيرة» القطرية على افتعالها «حفلة كذب» حول خاشقجي.
محمد العصيمي، في جريدة «اليوم»، كتب عن حملات التضامن مع «زميل الكار»: «فجأة أصبح بعض العرب، وكثير من الإيرانيين، يحبون جمال خاشقجي أكثر منا نحن السعوديين، مع أنه ابننا ومواطننا. أصبح هؤلاء المرتزقة والمتربصون الأم تيريزا» في الوقت الذي لام فيه وليد الأحمد عبر صحيفة «الحياة» انحياز «بي. بي. سي.» البريطانية و«واشنطن بوست» الأميركية و«رويترز»، وتناوُلِ قضية خاشقجي بمهنية ضعيفة ومنحازة بشكل فاضح، وفق تعبيرّه.
تواصل «عكاظ» نشر كل ما يمس بسمعة خطيبة خاشقجي


مع بدء ظهور خيوط تفاصيل «جريمة القنصلية» عبر مسؤولين أتراك، كتب يوسف الديني في جريدة «الشرق الأوسط» أنّ ما حدث انما هو «استهداف لمشروع الأمير محمد بن سلمان»، من قبل «الذين لا يحتملون سعودية تنافس على كعكة الاستثمار العالمي والخصخصة وتؤمن بقيم التحديث وتحارب الإرهاب وتكافح التطرف وتمكن المرأة وتسعى إلى خلق مجتمعات رفاه جاذبة». من جانبها، كتبت «الرياض» عن حملات التضامن مع المملكة في وجه «الحملات المعادية» المدفوعة بالخوف والطمع، بالقول «من يحرص على استفزاز المملكة اليوم، لا يعلم بأنه يستفز مشاعر المئات من الملايين حول العالم ممن يقفون مع المملكة قلباً وقالباً لما تقدمه من حرص وعناية بالمقدسات الإسلامية»، فيما خلصت أمل الزهراني في «الشرق الأوسط» إلى أنّ مشاركة محققين سعوديين في التحقيق في قضية خاشقجي «محسنة للخبرات»!
كتبة سعوديون ولبنانيون وعرب روّجوا للرواية السعودية التي لا يصدقها أحد من شعوب المنطقة والعالم، هي نفسها الشعوب التي خبرت جنون السعودية في حربها المستمرة على فقراء اليمن، ألحقتها باختطاف رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وأعلنت الحرب على الداخل والخارج لمجرد استنكار اعتقال نشطاء. ولا ننسى «ربيع سوريا» الذي كان خاشقجي رأس حربته الإعلامية قبل أن يسقط باليد نفسها التي ذبحت وموّلت الحرب الأبشع في المنطقة بعد احتلال العراق.