أول من أمس، تصدر هاشتاغ #القدس_عاصمة_فلسطين_الأبدية تويتر، ومعه ملايين الصور والتغريدات المندّدة بعدوانية «إسرائيل» التي خلّفت أكثر من خمسين شهيداً وآلاف الجرحى في غزة. حناجر افتراضية ناصرت فلسطين في ذكرى نكبتها السبعين ومسيرات «العودة». ولعلّ صورة البطل فادي أبو صلاح، المقعد والفاقد لساقيه، الذي استشهد أول من أمس، بعدما رمى الاحتلال بمقلاعه اليدوي، كانت الأكثر تداولاً وتأثيراً على الشبكة العنكبوتية. وجد احتفال تدشين السفارة الأميركية في القدس على يد ابنة الرئيس الأميركي إيفانكا ترامب، وتفاصيل اليوم الدامي في غزة وباقي المدن الفلسطينية، طريقها للتأثير على مواقع التواصل، من خلال تركيب صور لإزاحة ستارة السفارة الأميركية، حيث استعيضت بصورة لشاب فلسطيني استشهد بنيران الاحتلال، ولطِّخ ثوب ابنة ترامب بدمائه.
رسمة للشهيد ناجي العلي تعود إلى أوائل الثمانينيات

حسناً، المشهدية ثورية، والحناجر الافتراضية فعلت فعلها، في إيصال موجات الاحتجاج والغضب، وشدّ الأنظار الى النهار الدامي في غزة وفلسطين. لكن الحركة الافتراضية بقيت عاجزة، حتى مع وصول الناشطين الى الملايين، وملء المنصات الافتراضية، بألوان العلم الفلسطيني. ففي مقابل هذه المشهدية، كانت هناك آلة دعائية ضخمة، تستحوذ على الفضاء العربي، وتجرّنا منذ سنوات الى مستنقع الأسرلة. في الأسبوعين الماضيين، لم تصل وقاحة الإعلام السعودي (وأدواته)، الى ما وصلت إليه، من تحويل منابره الى منصات صهيونية، تكرر ببغائياً ما ينطق به الإعلام الصهيوني. حتى إنّ بعض الإعلام اللبناني وقع في هذا الفخ (شريط lbci من داخل الأراضي الفلسطينية يظهر تحضيرات العدوّ لدخول المواجهة في الجولان). واليوم، ليست أرض فلسطين، أرضاً متنازعاً عليها بين العرب سياسياً واستراتيجياً. ليست كسوريا التي قسّمها هؤلاء وتخندقوا من حولها، تمهيداً لإلقاء السهام. إنها فلسطين، التي نزفت أول من أمس شهداء وجرحى، ضمن أكبر حصيلة ضحايا في غزة في يوم واحد، سجلت منذ العدوان الأخير عليها (2014). مع ذلك، أظهرت التغطية الخليجية عوراتها، وتراجعها لمصلحة الخندق الصهيوني. «غزة تلملم جثثها... وواشنطن تعرقل طلباً أممياً للتحقيق»، عنوان أثار غيظ من تابعه على موقع «العربية» الإلكتروني، مرفقاً بصورة لأب فلسطيني يحتضن ابنه الشهيد ويبكيه حسرة. بات الشهداء الغزيون «جثثاً»، تُلملم، ومجرد أرقام في روزنامة الشبكة السعودية. في خبر آخر يتحدث عن الصورة التي جمعت الطبيب معتصم النونو بشقيقه الشهيد معتزّ، وضعت القناة عبارة «مجرزة رهيبة» بين مزدوجين، نقلاً عن بيان الحكومة الفلسطينية. الأكيد أن السعودية، وأدواتها الإعلامية، أرادت التنصّل حتى من إدانة «إسرائيل»، ولو بالصيغة الصحافية التحريرية، بعد تقديم أوراق اعتمادها للأميركي والصهيوني على حدّ سواء، وترك هذه المهمة تلقى على عاتق الحكومة الفلسطينية! قطر المطبّعة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً مع الاحتلال، تعاطت شبكتها «الجزيرة» مع المجزرة التي ارتكبها الصهاينة أمس بخلاف تعاطي «العربية». بدت العبارات والصيغ ملائمة («شهداء»، «احتلال»، «استشهاد»...)، عدا عن إبراز الوحشية الصهيونية، وتقديم الخبر فلسطينياً. هذا الأمر ليس بجديد على الشبكة القطرية، التي تؤدي هذه الأدوار في ظروف مماثلة، لا بل أكثر تذهب بعيداً في احتضان القضية الفلسطينية، وإدانة الاحتلال.
السعودية وأدواتها الإعلامية صوّرت «إسرائيل» ككيان «يدافع عن نفسه»


اللعب خليجياً منذ أكثر من ستّ سنوات ـــ تاريخ الأزمة السورية ــــ على تلميع صورة العدوّ، ومحو تاريخه الدموي، لمصلحة شيطنة «العدوّ» العربي (في الضفة المقابلة)، بدأ يتسرّب بشكل ناعم وتدرّج اليوم، ليصل الى أوجه، بتصوير «إسرائيل» ككيان «يدافع عن نفسه». أكثر من ذلك، لقد صار المنبر العربي صوته الدعائي. منذ سبعين عاماً، تاريخ احتلال فلسطين، والسعودية وأخواتها، وأدواتها الإعلامية لا تجرؤ حتى على المجاهرة بمساندة الاحتلال، حفظاً لماء وجهها، مع أنها كانت تمهد في السرّ والعلن، لصفقات ومشاريع تطبيعية مع «إسرائيل». وإزاء ما شهدناه أول من أمس، في غزة الجريحة، بات الأمر جلياً، وعلى «رؤوس الأشهاد»، كما يقال. ويبقى الأخطر، هو دخول الإعلام اللبناني في الحظيرة. وقد شهدنا في الفترة الأخيرة بدء تسرّب هذا الخطاب لبنانياً، ولو لم يكن بالخطورة القصوى. لكن مجرد استعراض بعض التقارير والمرور على بعض عبارات مقدمات نشرات الأخبار المسائية، لا بد من أن تستوقفنا بعض المحطات. مثلاً، فـ mtv التي ذكرت في مقدمتها عبارة «شهداء»، كان تقريرها الإخباري أول من أمس، لافتاً. إذ برّرت إقدام «إسرائيل» على هذه المجزرة المرّوعة في غزة، عندما صوّرت ما قامت به بأنّه مجرد ردة فعل، على ما فعله الفلسطينيون من «رمي للحجارة على الشرطة الإسرائيلية»، فبادرت الأخيرة ـــ بحسب التقرير ـــ الى «إطلاق النار عليهم». هذا إضافة الى تبرير من نوع آخر، ساقته في التقرير عينه، قائلةً إن «إسرائيل شنت غارة على مخيم للتدريب تابع لحركة «حماس» شمال قطاع غزة». هنا، التبرير مبطن، في التسليم بأن ما قام به الصهاينة «محق»، بما أن الهدف كان «مركز تدريب لحركة حماس»!
إذاً، نعيش اليوم أخطر مرحلة في عصرنا الإعلامي العربي. الكل بات يدور في الفلك الصهيوني، وأضحى الخطر أكبر في ضياع القضية الفلسطينية وتقزيمها، وتبرير إجرام «إسرائيل»، وغسل يديها من دماء الفلسطينيين. الفضاء الخليجي ومعه حفنة لبنانية، باتت «منسجمة» وموغلة في خطاب الأسرلة، فيما بقي العرب شعوباً وقبائل، لا يجدون سوى وسائل التواصل الاجتماعي منفذاً لوجعهم.