حين أطلّت شركة الصدى على الساحة الفنيَّة من خلال عملها الأوَّل «كواليس المدينة» (كتابة غادة عيد وإخراج السّوريّ أسامة الحمد)، استبشرنا خيراً معللين النفس بأنَّ الدراما اللبنانيَّة خلعت عنها أخيراً ثوبها «المكسيكيّ» المستعار، وباشرت في الافادة من التجربة السوريّة التي تغوص في الواقع إلى حدّ يبعث على الدهشة، عبر الاستعانة بخبرات سوريَّة لا يستهان بها من مخرجين وفنيين. إلا أنَّ التجارب اللاحقة للشركة («فخامة الشك»/ كتابة كلوديا مرشليان وإخراج أسامة الحمد، و«بلحظة»/ كتابة ندين جابر وإخراج أسامة الحمد)، لم تكن بالمستوى نفسه، بل يمكن القول إنَّها عادت لتدور في فلك «دراما نادر صباغ» المعلبة والمستوردة والباهتة التي لا تقول شيئاً! رأى بعضهم أنَّها أزمة نصوص وكُتَّاب، وأنَّ تجربة عيد التي اتكأت على قصص حقيقيَّة من برنامجها «الفساد» ليست قابلة للتكرار كلّ حين، وأن المخرج السوريّ مهما بلغ مستوى إبداعه، لن يمتلك القدرة على إحياء عظام النصّ اللبنانيّ وهي رميم! ولكنّ رأياً آخر قام على اعتبار أنَّ الكاتب اللبناني بإمكانه التحليق بعيداً لولا أثقال شركات الانتاج وشروطها، وأنَّ المراوحة على صعيد السويَّة الفنيَّة مقابل الصّعود السَّريع من حيث الكمّ والانتشار والبذخ الانتاجيّ، تتحمَّل مسؤوليَّتها الجهات المنتجة التي ترفض أيّ عمل يغوص في العمق، واضعةً الكاتب أمام أحد احتمالين: أن يخضع عمله إلى عمليَّة «نزع دسم» ليناسب «حمية» المحطات الباحثة عن «أطباق خفيفة»، أو أن يضعه على رفّ النسيان.
مسلسل «عندي قلب» (كتبه مروان قاووق ورنيم عودة وأخرجه أسامة الحمد أيضاً) الذي عرضت قناة «الجديد» حلقتيه الأولى والثانية يومَي الخميس والجمعة، رسَّخ الرأي الثاني. فالكاتبان السّوريَّان نجحا في «لبننة» العمل نجاحاً باهراً، وإن كانت «اللبننة» نقطة إيجابيَّة حين تعني اتساق العمل مع البيئة التي يُفترَض أنَّ الأحداث تدور فيها، إلا أننا نعني بها هنا شيئاً آخر هو السَّويَّة الفنيَّة. فالمسلسل الذي يبدأ من وفاة رجل الأعمال الثري «صائب بك» وتقبل بناته العزاء به، يبدو واعداً بقصة جديدة من قصص الغرام «اللايت»، حيث لا مكان لجرثومة المذهبيَّة أو الطائفيَّة، ولا الفقر، ولا البطالة، ولا الانقطاع الدائم للكهرباء، ولا العنصريَّة التي يعانيها السّوريّون في لبنان وغيرها من تعقيدات الواقع اللبناني ومشاكله التي لا تعدّ. نتعرَّف منذ الحلقة الأولى إلى «سيما» (جوي خوري) التي يثق بها والدها إلى الحدّ الذي يجعله يسجّل كلّ ممتلكاته باسمها كي تحمي أخواتها الأصغر سناً: يارا (نتاشا شوفاني) وآية (ليلى جريج) ولارا (جوي الهاني)، من أطماع عشاقهنّ المزيّفين.
لا يمكن طبعاً تقييم مسلسل بالاستناد إلى حلقتين، ولكن يمكن تسجيل بعض الملاحظات السلبيَّة، ومنها إصرار أسامة الحمد على الاحتفاظ بفريق العمل نفسه، ما خلا تغييرات طفيفة. وإن كان الثبات هو في الأصل عادة حميدة في الدراما، إذ يكفل التفاهم والانسجام وتوافر الكيمياء بين أفراد فريق العمل، إلا أنَّ هذا قد ينطبق على الدراما السوريَّة حيث الممثلون القادمون بأغلبهم من المعهد العالي للفنون يبرعون في تقمص الشخصيات على اختلافها، ولا ينطبق على الدراما اللبنانيَّة حيث يأتي معظم الممثلين إلى هذا العالم بمحض المصادفة، ويحصلون على أدوارهم بفضل العلاقات الشخصيَّة، فلا يجدون بأساً في اجترار التكنيك ذاته والمشية ذاتها والمفردات ذاتها مهما كان الدور مختلفاً، ليغرق المشاهد في التنميط والملل وتتداخل الشخصيَّات ببعضها لديه فيتشوَّش ذهنه.
وللحظة، تخال أنَّ «عندي قلب» هو الجزء الثالث من «بلحظة»! فالثبات في أسماء الممثلين يصاحبه استنساخ لمواقع التصوير، وينسحب هذا على الموسيقى التصويريَّة. لكن الأخيرة تحديداً تبدو للوهلة الأولى من التفاصيل المبشّرة، إذ تبعث فيك قراءة إسم الموسيقيّ العراقيّ رعد خلف في الشارة نشوة لا تلبث أن تتبدَّد سريعاً! فالرجل لم يأخذ العمل على محمل الجدّ كما يبدو وكرَّر نفسه في مقطوعات تشبه إلى حدّ كبير ما قدَّمه في «بلحظة» ولا تنتمي في شيء إلى ما أبدعه في أعمال المخرج التونسي المبدع شوقي الماجري «الاجتياح» و«هدوء نسبي»، و «حلاوة الروح».
وفي نظرةٍ سريعة على أداء الممثلين، يبرز حفاظ كل من وسام حنا (طارق) وربيع الحاج (حسام) وناتاشا شوفاني على مستواهم، مقابل جنوح علي منيمنة قليلاً إلى التكلف في دور «زيد». أمَّا مهدي فخر الدين، فيمكن أن نطلق عليه «فاكهة العمل» مع أداء حقيقيّ يمتاز بالكثير من الحيويّة والحرارة والصدق، ميَّز مشاهده بشخصيَّة «علاء» الذي يعمل في معرض للسيَّارات.
وبعد حلقتين من المسلسل، لا يملك المشاهد سوى الرجاء بأن تحمل بقيّة الحلقات ما ينبئ أنَّ صناع العمل «قَلَبوها دراما» فعلاً كما يخاطب طارق صديقه علاء في ختام الحلقة الثانية.

* «عندي قلب»: من الخميس حتى الثلاثاء 20:40 على «الجديد»