يرى الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون أن الإمكانية متاحة للوصول إلى الحقيقة فقط عن طريق «الخبرة الحدسية» التي يتمكّن الفنان من إيصالها في عمله، إذا كانت مادته تنتمي إلى «الحركة الرمزية» التي نشأت في مواجهة الواقعية الفنية. يبدو الكلام فضفاضاً إذا انسحب على الدراما التلفزيونية التي باتت تلتزم منطق السوق الأهوج، أو تعتصم عند مواضيع «السيكس» المجانية، وصراعات رؤوس الأموال. لكن الكلام ذاته ينطبق على المسلسل السوري «غداً نلتقي» (الإمارات- أبو ظبي-lbci- ldc- إخراج رامي حنا الذي تشارك الكتابة مع الممثل إياد أبو الشامات). في أول تجربة لهما، يثبت الكاتبان أنّ الدراما السورية ليست كذبة، أو طفرة فات أوانها.
من يعرف رامي حنا، يدرك أن الرجل فهم اللعبة باكراً، وأيقن أن الأضواء وحدها لا تصنع مبدعاً. لذا، انسحب من التمثيل نحو الإخراج فصنع أعمالاً مهمة مثل «عنترة» (كتابة غسان زكريا ـ 2007)، و«زهرة النرجس» (كتابة خلدون قتلان ـ 2008) ثم حقق صدى عربياً كبيراً من خلال مسلسل تجاري هو «روبي» (كتابة كلوديا مرشيليان ـ 2012). بعد ذلك انكفأ بحثاً عن تجربة جديدة، عساه يقارع النيران التي اندلعت في بلاده. إذا به يعود إلينا بخيار مدهش تمكّن منذ حلقاته الأولى من أسر المشاهد، وتحقيق نقلة نوعية في ما يخص دراما الأزمة. لعب الممثل والمخرج السوري على الطريقة الرمزية للشخصيات وتاريخها. بل ترك الباب موارباً أمام احتمالات تأويلية متباينة، بحيث يمكن لكل متفرّج أن يفك شيفرة هذه الرموز وفق وعيه وإدراكه وتماسه مع الجرح السوري الذي نراه معمماً في «غداً نلتقي» على كل مستضعفي العالم.
بلغة شاعرية، يجرّب حنا الوصول إلى مقولاته من دون طرحها بشكل مباشر وفج، بدءاً من الشارة التي يلتقط فيها صوراً وثائقية صادمة من الحرب ثم يركِّب عليها بأسلوب كاميرا الأطفال شخصيات مسلسله، ويترك خيار الموسيقى لإياد الريماوي، فيطغى الوجع الذي يبثه الكمان، فتتفق الموسيقى بالمجمل مع شخوص المسلسل، مروراً بمشاهد بالغة الدلالة كأن نسمع بطلة المسلسل «وردة» (كاريس بشار) مغسّلة الأموات، وهي تخبر الشاعر الصعلوك محمود (عبد المنعم عمايري) كيف ارتبطت أغنيات فيروز بطفولتها المسحوقة وصباحات عائلتها الباردة والفقيرة. وهو ما جعلها تعزف عن سماعها لاحقاً، لكنها في المقابل تترك رنة هاتفها ملكاً لصاحبة الصوت الملائكي بأغنية «حكيلي حكيلي عن بلدي حكيلي».

وردة هي رمز معادل
لسوريا المستمرة في تغسيل وتكفين أمواتها


طيلة مفاصل المسلسل، نراقب اختصاراً مكثفاً لخلاف أهل البيت السوري الواحد، من خلال نقاشات حامية بين الشقيقين المهجّرين محمود الشاعر والصحافي المعارض الذي يعتقد أنه سيجابه بالموت في المعتقلات لو قرر العودة إلى الشام، وجابر بائع الأقراص المدمجة المتنقل (مكسيم خليل) المؤيد الذي هرب من جحيم الحرب خائفاً من الالتحاق بالجيش، واعتقد أنه يحمي بلاده عندما قرر التبليغ عن شباب التنسيقيات. نقاشات تعكس حالة الشقاق السياسي، وظّفها صنّاع العمل برمزية تعلّق الشقيقين بفتاة أحلامهما المنشغلة بإخفاء مهنتها بتغسيل الأموات وإرسالهم أنقياء إلى عالم أفضل من العالم الذي نعيشه، كما يقول محمود في واحدة من سكراته عند باب صديقته. تضيق البطلة ذرعاً بكل من حولها، فتقرر مواجهة البؤس المحيط بها، وتتخذ من الصراحة المطلقة منبر نجاة وحيد. هنا توظف كاريس كل إمكانيتها لإظهار العوالم الداخلية للشخصية، في أحد أدوارها الفارقة. تجتهد لتوضب مفردات أحلامها الصغيرة، ثم نراها تسبك من أدوات بسيطة سينوغرافيا بيت نظيف ومرتّب رغم فقره المدقع، كونها تعتبر وطنها كلّ مكان تطأه قدماها. تسير الأحداث وفق مشاهد بصرية عالية هي ليست سوى قصص قصيرة تصل في نهايتها إلى ذروة درامية بأسلوب رشيق، يمشي بمحاذاة الكارثة الإنسانية للسوريين، وبخلاف مع الرؤية الكلاسيكية للبناء الدرامي بتعقيد الأحداث مع تتالي الحلقات. هكذا، نصل إلى لحظة مصيرية يشتعل فيها بيت وردة بمن فيه أي الشقيقان المختلفان على امرأة. هذا في الظاهر، لكن حقيقة العراك تعكس خلاف شعب بكامله، كأن المشهد يريد القول بأن وردة هي رمز معادل لسوريا المستمرة في تغسيل وتكفين أمواتها يوماً بعد يوم، فيما أسهم أهلها الموالون والمعارضون في صب الزيت على حرائقها الملتهبة. يبرز أداء الممثلين كورقة رابحة (راجع الكوادر). يختار رامي حنا لعب دور لشخصية كأنه استعارها من الأدب الروسي عن رجل يبحث في كومة البؤس تلك عمّن يملك شجاعة قتله. كلّ ما سبق كان أكبر من قدرة محطة مثل mtv على الاستيعاب، فما كان منها سوى أن استلّت سيف ضغينتها بعد بضع حلقات، وقررت أن تحرض ضد الفن. على أمل إيقاف المسلسل الذي اتهمته زوراً وبهتاناً بالعنصرية ضد اللبنانيين لأنه يمر في لمحات عابرة على جزء يسير مما عاناه النازحون في هذا البلد (الأخبار 24/6/2015).
الخيار الدرامي الناجح يوضح تأثّر مخرج العمل بالمعلم الصربي أمير كوستوريتسا وحرفيته بمزج التراجيديا مع الكوميديا السوداء، واستخلاص الأخيرة من عمق الأولى، وإجبار المتفرج على الضحك حتى عندما يقدم له ذروة مأساته.




بالأسود والرمادي

يعتصم المسلسل عند خيار الإضاءة المعتمة واللونين الرمادي والأسود في الكثير من مشاهده. وهو بذلك يتخلى عن رمزيته ليأخذ منحى واقعياً مقصوداً يراد منه تكريس حالة العتمة التي تسوّر الشخصيات كما هي، والتلميح إلى غياب الضوء الذي يعلن نهاية النفق الذي دخله السوريون. لكن الخيار خلّف انطباعاً سيئاً عند المتابع وأفقده متعة المشاهدة بسبب المبالغة الزائدة في الإضاءة الخافتة. في المقابل، سبّبت لقطات الفلاش باك لوردة بعد وصولها فرنسا بدءاً من الحلقة الـ 18 إرباكاً لدى جزء من الجمهور. علماً أنه كان يُفترض افتتاح المسلسل انطلاقاً من هذه المشاهد، لكنّ تأخّر صدور التأشيرات لفريق المسلسل، أجبر مخرجه على تأخير هذه المشاهد. الأخيرة أسهمت في مكان معين في تعويض غياب الأحداث في تلك الحلقات، فيما يؤخذ على العمل ضعف التبرير الدرامي للتطور اللافت والمفاجئ في شخصية أبو عبدو، واتجاهها إلى التطرف الديني، في وقت غير مقنع. ربما كان من الأجدى ربط هذا الانقلاب في شخصيته بوفاة أخيه (علي كريم) بسكتة قلبية مثلاً.