يجلس الشاعر السويدي توماس ترانسترومر على كرسي البيانو في شقته في استوكهولم ويعزف بالشمال، فيمينه مشلولة على أثر جلطة دماغية أصابته مطلع التسعينيات وعطّلت بعض أعصابه، لكنها لم تؤثّر على شعره وفنه. كنت كلما أصل الى باب شقته المطلة على بحر استوكهولم وأسمع صوت البيانو، أعرف أنّ توماس في ذروة نشاطه، وأنه سيشرح لي بطيب خاطر، بعض المقاطع المستعصية من شعره. فقد كنت آنذاك منكباً على ترجمة أعماله الشعرية الكاملة من السويدية الى العربية. حالما تفتح زوجته مونيكا الباب، يتوقف توماس عن العزف، يرفع رأسه ويبتسم ابتسامته العريضة مرحّباً، حريصاً على كل جملة ومعنى. وعندما يشعر بأنّ زوجته مونيكا أو أنا لم نفهم معنى بعض الكلمات، يطلب ورقة بيضاء، ويروح يكتب بعض العبارات ويرسم ويخربش إلى أن يوصل المعنى الحقيقي لأشعاره. بعد أقل من سنتين، انتهينا من ترجمة الأعمال الشعرية الكاملة. ثم أعاد الشاعر الكبير أدونيس قراءتها ووضع لمساته الشعرية عليها. جميل أن ترى نفسك بين قطبين من أهم اقطاب الشعر العالمي أدونيس وترانسترومر. لكن الشعور بالمسؤولية أكبر. نصوص ترانسترومر كانت دوماً مرشحة لـ«نوبل»، وهذا وحده يضاعف حجم الثقل الادبي للترجمة. علّمني شعر ترانسترومر أن أقترب أكثر من الطبيعة وأفهم تفاصيلها. أدخلني في فك رموز شعر الهايكو الجميل، وأغناني بمعلومات تاريخية يمر فيها الشاعر، علّمني التعامل مع الرموز التي تدخلك إلى أعماق القصيدة. بعد سنوات مع الشعر المقتضب، إنما الكبير بحجم الانسانيّة، قطف ترانسترومر أخيراً جائزة «نوبل». كنت كلّما تحدثت عنه حول الموضوع، أجابني «أتمنى أن يحصل عليها أدونيس، فهو أحق فيها من أي شاعر آخر». ويبتسم ثم تدخل زوجته على الكلام، وتضيف: «أمنيتي وأمنية كثيرين أن يتقاسم ادونيس الجائزة مع توماس. هما يستحقانها بجدارة وبهذا نحتفل بهما معاً».
أدونيس بعث أمس برسالة الى هاتف توماس الخلوي مباركاً له بالجائزة. لكن الخبر كان مفاجئاً لكثيرين. توماس نفسه كان يعتقد أنّ الأكاديميّة لن تعطي الجائزة لكاتب سويدي بعد الذي حصل مع هاري مارتينسون الذي انتحر بعد حصوله على نوبل للآداب عام ١٩٧٤. ومنذ ذلك الوقت، لم تمنح الجائزة لأي كاتب سويدي. لذا، فحصول ترانسترومر على «نوبل» له قيمة معنوية للشعر الذي يعيش مرحلة جمود، وهو أحوج ما يكون إلى نسمة تنعشه من جديد، كما بدّدت الغيمة القاتمة التي تركها انتحار مارتينسون.
وإذا كانت العادة قد درجت على أن تثير «نوبل للآداب» غالباً، سجالاً لا بدّ منه حول شخصيّة الفائز بها، روائيّاً كان أو مسرحيّاً أو شاعراً، فإن اسم ترانسترومر يكاد يحقّق الاجماع حتّى الآن. كأن باختياره لهذا التكريم الرفيع، سيبث شعور الفرح والاعتزاز لدى أقرانه، لأنّه يستحق الجائزة منذ أكثر من 20 سنة. شعره الانساني ذو الابعاد المتنوعة الجميلة مميز بلونه وأسلوبه. كما أنّ شخص ترانسترومر المتواضع والكريم والانساني يجعله أقرب الى القديسين المسالمين.

* صحافي لبناني مقيم في استوكهولم، مترجم «الأعمال الشعرية الكاملة» لتوماس ترانسترومر (أعاد قراءتها وقدّم لها أدونيس ـــ «دار بدايات»، سوريا، 2005)