ببساطة، إنّها البطريركية الجديدة تعيد إنتاج ذاتها. الكثافة المركّزة، طور من أطوارها، حيث العنف المنظم والمؤدلج والمنضبط. الطاقة القصوى لضمان إعادة الإنتاج. تكثيف لنظام تفكيرها: الثنائية كطريقة لفهم الكون: العقل والجسد، الإنسان والطبيعة، الروح والمادة، الخير والشر.
والتراتبية تصنف به ما حولها: الأعلى والأدنى، الأقوى والأضعف، الذكر والأنثى، الأنا والآخر. البطريركية بوجهها المتوحش تقدّم منتجها الأوحد «الحرب»: حامل السلاح مقابل الأعزل، ومشهدية بالألوان الطبيعية تمزج على قماشة واحدة: الاقتصاد المهدّم، الطبيعة المدمّرة، إيديولوجية العنف والخوف، والشارع الذي سيُحرث جيداً وطويلاً لتسهل إعادة تشكيله، فهذا من مخلفات الإنتاج، وعلينا أن نفسح الطريق أمام المُنتَج الجديد للمجتمع البطريركي القادم.
هناك أيضاً البطريركية الفكرية: وجه عسكري يصارع وجهه الآخر: الديني. وفي لحظة العنف بينهما، لا وقت للفكر: فإما أنا أو هو. ولا وقت للفردية: إما معنا أو ضدنا. الآخر: هو من مخلفات الإنتاج: مدان ومخوّن حتى يثبت العكس ويبرهن على انتمائه للقطيع، هذا الآخر المشوّه هو المنتَج الجديد للبطريركية القادمة.
الفكر البطريركي الموتور، مقابل الفكر الإنساني المنفتح. مخلفات منتجها هو الإنسان، الطبيعي، والبرّي، ومخلفات إنتاج لحظة العنف هذه هي المنتج الجديد للمجتمع البطريركي القادم.
منتج المجتمع البطريركي الجديد: الآخر الذي خرج من إنسانيته وانضم إلى العقل البطريركي الجمعي.
الأطفال المؤهلون الآن للعنف المقبل.
والنساء اللواتي سيحافظن على الجيل البطريركي الجديد، وقد تعلّمن الدرس جيداً، إلى حدود اليقين المطلق.
هناك أيضاً الاقتصاد المسروق، وإيديولوجية الخوف، والمجتمع الذي شوهه العقل المغلق على أناه.
لا يهم أي طرف بطريركي سوف يفوز، كلاهما قاصر وعاجز عن إنتاج سوى ذاته. ما زلنا «الآخرين»، ولن نتحوّل إلى منتَج جديد يمكن أن يتحوّل في أي لحظة إلى «آخر» سيجري إقصاؤه بعنف هذه اللحظة ذاتها.
لنبق في أماكننا إذاً، فلا يأخذنا خوفنا إلى حضن أحد الأطراف ولا ردود أفعالنا إلى خنادق تشبه خنادقهم، عملنا أن نتعرف على وجه القاتل: في ثوب ضحية أو جلاد، أو بطل. إنجازنا أن نتابع إنسانيتنا بحقولها الشاسعة.
لسنا حالمين كي ننتظر الجنة القادمة التي ستقدمها إلينا لحظة التكثّف هذه، أو الترميم الرائع الذي سنمارسه في البشر المحروقين والبرّية المشوهة حولنا. هناك الحقيقة المشرقة في قلب هذه العتمة التي تولدها قباحة العنف، وهو في ذروة لحظات إعادة إنتاجه، فيما يكون العقل البطريركي في أكثر لحظاته هشاشة، فهو لم يبلغ مرحلة اكتمال الشرنقة بعد. طور بطريركي آخر، سيستقر في أرضه الجديدة، وكرماً منه سيسمح لنا حينها ـ وضمن منظومته ووفق قوانينه الصارمة ـ بقليل من حساء الحرية البائت.
ينبغي ألا ننسى هنا جموع النساء البطريركيات حارسات تلك القوانين والرجال الموتورين حماة الأخلاق والقيم والشعارات على هيئة صناديق مغلّفة ومصنّفة ومدموغة بحبر «مخصّص للتصدير».
قبل أن تبدأ هذه المنظومة الموتورة بالعمل من داخل البلاد، أو من خارجها، من كل أماكن اختبائنا، ونضالنا، وهروبنا، واعتزالنا، الآن، يجب أن نستعيد آدميتنا المخطوفة والمنتهكة، لنؤسس موطئ قدم لنا، ونبدأ حربنا القادمة على نحوٍ آخر..
* روائية سورية