الجزائر | بعد انقطاع سبعة أعوام، يعود محمد شويخ (1943) إلى واجهة الحياة السينمائية المغاربية بعمل جديد يحمل عنوان «الأندلسي» استغرق إعداده ثلاث سنوات (إنتاج مؤسسة «عاصمة فيلم» التي تديرها رفيقة درب محمد شويخ، المخرجة يامينة بشير شويخ). يستعيد الشريط صفحات نيرة من التاريخ الإسلامي في الفردوس الأندلسي المفقود الذي شهد تجربة فريدة في التعايش بين الأديان السماوية الثلاثة في مناخ من التآخي والتسامح. تجربة ينطلق منها صاحب «القلعة» ليلقي بنظرة نقدية على ما تشهده الحقبة الراهنة من اقتتال وتصفيات دينية وطائفية.
استلهام التاريخ بحثاً عن إسقاطات ومفاتيح لفهم إشكاليات راهنة وتفكيكها، ليس جديداً على السينمائي الجزائري المخضرم الذي خرج من معطف مسرح ولد عبد الرحمن كاكي، وهو الذي عمل ممثلاً تحت إدارته في الستينيات في مسقط رأسه في مستغانم. منذ باكورته المبهرة «القلعة» (1988)، اختار شويخ التغريد خارج السرب. نأى بنفسه عن «الصراخ الثوري» المهيمن على السينما الجزائرية (راجع المقال أدناه)، واتخذ من التراث الحكائي المغاربي أداة لمساءلة الراهن، والقفز برشاقة فوق حواجز الزمان والمكان، لاستدراج مشاهده ومراوغته وإبهاره. بذلك استطاع مثلاً في فيلمه الثاني «يوسف وأسطورة النائم السابع» (1993) أن يتخذ من قصة «أهل الكهف» القرآنية منطلقاً لاستشراف المأسأة الفاجعة التي ستعصف ببلاده خلال «العشرية الحمراء» متنبئاً بجريمة اغتيال الرئيس محمد بوضياف!
حقق شويخ شهرة عالمية رغم ابتعاده عن الأنماط السينمائية المتملقة للغرب. لكنّه تعامل بحذر مع عروض الإنتاج المشترك. تفادى الوقوع في فخ الاستسهال، وقاوم إغراءات الرواج التجاري، ما يفسر كونه الأقل غزارة بين أبناء جيله. هو لم يقدم سوى 5 أفلام على مدى ربع قرن. لكنّ كل عمل شكّل علامة فارقة في سينما بلاده. ولأنه اشتهر كسينمائي مقلّ، لم ينتبه أغلب محبيه إلى أنّ انقطاعه عن العمل السينمائي منذ «دوّار النساء» (2006) لم يكن اختيارياً، بل فرضته أزمة صحية ألمّت به. واجه المرض بصمت، بعيداً عن الأضواء، حتى إنّ كثيرين من أقرانه وزملائه لم يسمعوا بمرضه إلا من خلال الشريط الوثائقي المؤثر الذي خصته به القناة arte (إخراج العربي بوشيحة ــ 2008).
اليوم، يعود محمد شويخ من بوابة التاريخ الأندلسي. يأتي فيلمه نتاج تأملات وأبحاث شغل بها أوقات فراغ خلال عزلة المرض. حيال ما يشهده العالم حالياً من احتقان طائفي ومواجهات عرقية ودينية، تطلع صاحب «عرش الصحراء» إلى «زمان الوصل في الأندلس»، أملاً في استلهام سيناريو فيلم تاريخي يثمّن تجربة التسامح والتعايش بين الأديان خلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في الأندلس.
تلك الأبحاث قادت المخرج الذي يقدِّم هنا أول فيلم ناطق بالعربية الفصحى في بلد المليون شهيد، إلى التنقيب في المخطوطات القديمة بحثاً عن قصة جديرة بأن تروى. فإذا به يقتفي آثار مجموعة من العائلات الغرناطية المسلمة واليهودية التي هُجِّرت من الفردوس الأندلسي بعد سقوط المدينة، ونزحت إلى الضفة الجنوبية للمتوسط، واستقر بعضها في مسقط رأس المخرج في مستغانم (قرب وهران) أو «مسك الغنائم» كما كانت تسمى في ذلك الزمان.




تروي قصة الشريط تغريبة سالم بن أبي حمزة (الممثل الشاب محمد بن بريكي في أول دور بطولة مطلقة)، نجل آخر قادة مملكة غرناطة الذي يرافق الملكة عائشة (النجمة بهية راشدي) وابنها الأمير أبو عبدل (طارق حاج حفيظ) في رحلة تيه طويلة بحثاً عن ملاذ آمن من بطش الصليبيين الإسبان. ويضم الموكب النازح من الفردوس الأندلسي شخصيات مسيحية كوالدة سالم بن أبي حمزة، ماريا رودرغاز (أمينة لوكيل)، وأخرى يهودية كخياط الملكة إسحاق وزوجته سارة وابنتهما ماري. في «مسك الغنائم»، يجد كل هؤلاء على اختلاف أعراقهم وديانتهم ملاذاً آمناً في ضيافة ملك المدينة عبدلي (حسان كشاش)، ما يؤسس لتجربة تعيد إحياء تقاليد التعايش التي كانت سائدة في الأندلس. بذلك، يقول شويخ عن فيلمه إنّه «ليس مجرد عمل تاريخي يعنى بسرد الأحداث، بل أردته نشيداً في التسامح بين الأديان وعملاً إنسانياً يثمن قيم التآخي والعيش المشترك».
مشاهد الفيلم التي حملت توقيع مدير التصوير الشهير علال يحياوي (رفيق درب شويخ منذ «القلعة»)، صوِّر بعضها في قصور حي القصبة العتيق في العاصمة الجزائرية، مثل قصر محمد باشا، وقصر خداوج العمياء، والبعض الآخر في قصر مشور في مدينة تلمسان (غرب البلاد). أما المناظر الخارجية فتوزعت بين ميناء تيبازة الساحلي (75 كلم إلى الغرب من الجزائر العاصمة) ومدينة «صفاقس» التونسية. وحرص العمل على إبراز فنون الطرب الأندلسي، مستعيناً بفرقة «جوهرة» الفنية في مشهد رقصة المشعوذ الذي تقمّص دوره المسرحي العراقي فاضل عباس، وبنجمة الفن الأندلسي الجزائرية زكية قارة تركي التي قدّمت وصلات من الطرب الغرناطي.