القاهرة | ولد الشاعر المصري فؤاد حداد في ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) 1928، ورحل في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1985 «كأنه عاش يومين غيّر فيهما وجه الشعر»! هذه هي العبارة التي كتبها ابنه الشاعر أمين حداد على صفحته الشخصية على فايسبوك» قبل أيام، لافتاً الى مرور 30 عاماً على وفاة والده الذي وصف نفسه بـ»والد الشعر».
وعلى الرغم من مكانته الكبيرة ودوره التأسيسي في شعر العامية المصرية، مرت ذكراه الثلاثون بهدوء ومن دون أي مظهر احتفالي من قبل المؤسسات الرسمية. وهكذا دونما صخب، تلاقت ذكراه مع حياته التي عاشها أقرب ما يكون إلى «ولي صوفي»، مكتفياً بالزهد غير راغب الا في العطاء. اللافت أنّه قبل موته، كتب حداد في أحد دواوينه عبارة دالة تشير الى فهم آليات التحقق، إذ كتب «انا اللي واخد حقي من موتي». عبارة صحيحة الى حد كبير، فقد اتيح له عقب موته ما لم يتح له في حياته من شهرة ونفوذ. بفضل صدور أعماله الكاملة في طبعتين الأولى عن «هيئة قصور الثقافة» (2005)، والثانية عن «هيئة الكتاب» (2013، تمكّن قراء الشعر من الأجيال الجديدة من ادراك مكانته. كما أتاحت الوسائط الجديدة من أنظمة «ساوند كلاود» و»يوتيوب» بعض القصائد بصوته بخلاف الأمسيات التي شارك في احيائها اوائل الثمانينات وتوافرت لها بعض التسجيلات المرئية. وعلى قلتها، إلا أنّها مكّنت حداد من الحضور في ذاكرة الأجيال الجديدة التي شدتها أفكار التغيير السياسي في السنوات الاخيرة، بخاصة أنّ بعض قصائده مثلت نقطة مركزية في مشاريع الغناء البديل بدءاً من ثمانينات القرن الماضي عبر أصوات محمد منير، وعلي الحجار، وحتى فرقة «سكندريلا» التي عرفت أغنياتها ذيوعاً كبيراً عقب «يناير 2011».

اجتهد لتحرير الشعر
الشعبي المصري من
حدود الزجل

ينطوي اختصار أعماله في البعد السياسي على ظلم كبير، فمشروعه الشعري يتجاوز هذا الاطار. إنّه المؤسس لشعر العامية المصرية، لا يمكن قراءة منجزه بمعزل عن التطورات التي مرت بها القصيدة العربية في منتصف أربعينات القرن الماضي. بينما كانت قصيدة الفصحى تبحث في امكانيات التحرر من الالتزام الموسيقي وصولاً إلى آفاق أرحب مع التفعيلة ثم قصيدة النثر، كان حداد يجتهد في المقابل لتحرير الشعر الشعبي المصري من حدود الزجل الذي بلغ نموذجه الأعلى مع بيرم التونسي. الأخير رهن مشروعه الشعري بحدود النقد الاجتماعي وأنماط الهجاء الساخر، في حين كان طموح حداد ــــ اللبناني الأصل ـــ البحث في آفاق أبعد. استند بذلك إلى ثقافة فرنسية واسعة ومعرفة عميقة بتراث الشعر العربي. ظهر ذلك جلياً في دواوينه التي اعقبت باكورته «أحرار وراء القبضان» (1956). صلاح جاهين الذي نظر لنفسه دوماً كتلميذ لحداد، اعتبر هذا الديوان بمثابة «مانيفستو» للتغيير لا يمكن التغاضي عن أثره الذي يشابه الأثر الذي حققه لويس عوض في ديوانه الوحيد «بلوتولاند».
وبسبب ارتباطه بالنضال الوطني ضمن فصائل اليسار الوطني، تعرّضت نصوص حداد لشيء من «التهميش» بسبب مواقفه السياسية من ناحية، هو الذي قضى أغلب سنوات عمره في المعتقلات، ومن ناحية أخرى لطبيعته الشخصية التي كانت تناهض الاستعراض والحضور المجاني.
المتأمل في مشروع حداد الشعري، يلفت نظره مفهومه المبتكر لـ «الهوية المصرية». اشتغل في أغلب أعماله على استدعاء رموز التاريخ العربي المقاوم، وقدم نصوصاً لا تخلو من سمة ملحمية خاصة في «نور الخيال من صنع الأجيال» وعمله ذائع الصيت «المسحراتي» (1969) أو «الحمل الفلسطيني» (1985). وأغلبها نصوص لحّنها الشيخ سيد مكاوي ومنحها طابعاً شعبياً.
باستطعاتنا الآن تحرير نصه من الالتباسات التي تشيع حول مفهوم الهوية، فالشاعر ذو الاصول اللبنانية أعطى مثالاً فذاً على فكرة الانفتاح على هويات متعددة يمكن أن تنصهر في هوية عربية جامعة لا هوية مغلقة. في دراسة أخيرة حول شعره أصدرها الباحث سيد ضيف الله، لفت إلى أنّ فكرة العروبة لم تكن حاضرة في ديوان حداد الأول كما كانت قضيتا الفقراء والاستقلال حاضرتين. لكنّه أوغل في الامساك بفكرة العروبة حتى فاق حدود الممكن سياسياً. هكذا، أصبحت أحلامه بالأمة المتخيلة تفوق قدرة الحاكم على تحقيقها. وبمثل هذه العبارة، يمكن فهم تعقّد علاقة حداد بزعامة عبد الناصر الذي سجنه مع عشرات المناضلين ثم رثاه في ديوان كامل بعنوان «استشهاد جمال عبد الناصر» حيث وضع الزعيم في مصاف الشهداء.
وبعيداً عن التعاطي السياسي المباشر في نصوص حداد، يمكن الاشارة الى طابعها الخادع بسبب شيوع النبرة الايقاعية في شعره. نبرة فرضتها عليه سنوات السجن الطويلة، وتوحي ببساطة المعنى في حين أنه ـــ وهو الصوفي العظيم ـــ حمّل شعره بأكثر من طبقة، وبطريقة لا تمكن إزاحتها خلال عملية إعادة القراءة التي تصبح في كل مرة نوعاً من التوليف، تسمح بخلق حوار بين الشاعر وقارئه. مهمة نادرة واستثنائية لا يقدر عليها الا الشعراء الذين انفتحت تجاربهم على هموم كونية. وهو هنا يبدو مخلصاً لارث المتصوفة الكبار، كما يشير ذلك الى فهمه المبكر للمسارات التي اتخذها الشعر العربي بمختلف اتجاهاته. مسارات لم تكن خافية عنه بسبب ثقافته الفرنسية الرفيعة التي قادته مبكراً للتعاطي مع نصوص سان جون بيرس، ولوي اراغون، وبول إيلوار، وجاك بريفير. وربما كان هذا السعي متزامناً مع محاولات شعراء جماعة «شعر» البيروتية التي بنت حداثتها بالكامل على هذا الإرث الذي كان فؤاد حداد قد حرثه حرثاً كاشفاً، باحثاً عن الطاقات التي يتيحها لتجاوز الأشكال التقليدية للكتابة الشعرية. أمور استثمرها شعراء الموجة الثانية لشعر العامية المصرية. بعد حداد وصلاح جاهين، جاء جيل سيد حجاب، ومجدي نجيب، وعبد الرحمن الابنودي الذي وصف حداد بـ «الإمام» أي الرائد الذي مات قبل 30 عاماً من دون أن يبحث عن شهرة أو مجد، فهو القائل: «مش شرط يقيموا التماثيل، أنا واضح زي الأحلام».