أمام كلّ تعدٍّ جديد على حرية التعبير، يخيّل إليك أنّ الرقابة في لبنان بلغت الحدّ الأقصى من العبثيّة... يطمئنّ جزء منك إلى أنّ الآتي قد لا يكون أعظم. لكنّ الرقيب ـــ بمختلف تركيباته الرسميّة والسياسية والدينية ـــ يبتكر في كلّ مرّة طريقةً جديدة، ليتفوّق على نفسه. آخر فصول الرقابة اللبنانية ما سيشهده قصر العدل (المتحف/بيروت) عند التاسعة من صباح اليوم. «بلد الحريات» سيحاكم باسم الشعب اللبناني رساماً بتهمة... الرسم على حائط!
المدّعى عليه اسمه سمعان خوام، ضُبط بـ«الجرم المشهود» في وضح النهار، وهو يخطّ جداريّة على حائط محطّة القطار القديمة في منطقة الكرنتينا، الصيف الماضي. عسكر، وبواريد، وجزمات، هذا ما رسمه سمعان. عنصران من استخبارات الجيش استفزّهما المشهد، فتلقّفا الرسام، وسألاه عن موضوع رسمه العجيب. لم يهرب خوام، بل شرح للعنصرين موضوع رسمه: «هذا لتأريخ الحرب الأهليّة وجرائمها»، أجاب. عندها، اتصل العنصران بـ«سيدنا». ونتيجة للاتصال، طلبا من سمعان أن يكمل ما بدأه. بعد قليل، وصلت دوريّة درك إلى المكان، واصطحبت رسام الغرافيتي إلى مخفر مجاور للتحقيق. كانت تلك البداية لسلسلة تحقيقات، انتهت باستدعائه إلى المحاكمة في شباط (فبراير) الماضي بتهمة «مخالفة الأنظمة الإداريّة»، أو «تشويه الأملاك العامّة»، أو...
«الملف فارغ عملياً، وخال من مادّة ادّعاء واضحة»، يوضح عادل الحوماني محامي الدفاع لـ«الأخبار»، مؤكداً أنّ خوام سيمثل اليوم أمام قوس المحكمة من دون أن يعرف تحت أيّ مادة سيحاكم تحديداً. «من حقّنا كدفاع أن نعرف الجرم المنسوب إلينا بوضوح في الدرجة الأولى. إن كان خوام يخالف الأنظمة، فلا شيء يشير في القانون صراحةً إلى ضرورة استحصاله على إذن للرسم على الحائط، خصوصاً أنّ هناك الكثير من الرسوم المنشورة على جدران بيروت، ولم نسمع حتى الآن أنّه قد جرت محاكمة أصحابها. وإن كان سيحاكم بتهمة التشويه، فهذه تهمة باطلة، لأنّ عمله فنيّ هدفه التعبير عن نظرة مجتمعية، وتجميل الفضاء المديني. وإن كان هذا العمل الفني تشويهياً، فماذا نقول عن صور الزعماء المنثورة في كلّ مكان، وعن كلّ الملصقات والإعلانات العشوائية؟».
يبدو أنّ القضيّة ليست مسألة «تشويه»، أو «مخالفة لأنظمة»، يحاكم على أساسها خوام المدعى عليه من قبل النيابة العامة بجرم حقّ عام. الناظر إلى رسمة خوام للوهلة الأولى (تنشرها «الأخبار» هنا)، لن يجد فيها ما يستفزّ، أو ما يستدعي المحاكمة. هناك الكثير من الرسوم التزيينية التي تنتشر على جدران العاصمة، بعضها غرافيتي مسيّس، وبعضها خربشات عشوائية: في كلّ مكان ستقع على «أم كلثوم تبوس الواوا»، أو «بيروت لا تموت»، والكثير الكثير من الشتائم... كلّ هذا لم يحرّك الرقيب العسكري أو القضائي. لكن أن يقوم أحد برسم «طاسة، وجزمة، وبندقيّة»، فذلك يعدّ مسّاً صريحاً بأحد المحرّمات، أي العسكر. الأمثلة كثيرة ويكفي أن نتذكّر ما حصل برسمة «أحبّ الفساد»، لفنان الغرافيتي اللبناني علي قبل أشهر. بالتعاون مع زميله المصري جنزير، رسم علي على أحد جدران منطقة الحمراء دركياً يفتح قميصه، وعلى صدره طبعت كلمة «أحب الفساد». طُلي الرسم بطلاء أسود بعد ساعات قليلة. الخربشات لا تقلق راحة أحد إذاً. المهمّ ألا يتطرّق الغرافيتي إلى محرّم سياسي أو ديني أو اجتماعي.
«هناك قمع معنوي مورس بحقّي، والقضيّة ليست قضيّتي وحدي»، يقول سمعان خوام بعدما نصحه بعض الأصدقاء بالتراجع عن موقفه الصارم القاضي برفض دفع الغرامة، على اعتبار أنّ القانون لا يتيح له الرسم على أملاك عامّة. «أنا مجنون أريد أن أكتب على الحائط. الشارع هو جريدتي»، يردّ مصرّاً. بعيداً عن قضيّة خوام، تبقى فنون الغرافيتي «محظورة» في كلّ أنحاء العالم، خصوصاً أن الرسامين المعروفين، مثل البريطاني بانكسي، يرسمون بشكل يهدد «الاستبليشمنت»، ويصرّون على إبقاء هوياتهم الحقيقيّة طيّ الكتمان. حتّى على ساحة الغرافيتي المحليّة، يمكن أن تسمع قصصاً كثيرة عن فنانين يفضّلون الرسم في الليل، بعيداً عن عيون الرقابات المختلفة. ومن الطبيعي إذاً أن يخرج فنّ الغرافيتي عن أي إطار للقوننة، لأنّه في الأصل، فنّ خارج عن القانون، وضدّ السائد.
من هنا، يأتي التحرّك التضامني مع سمعان خوام. أعرب فنانون وجمعيات عن نيّتهم حضور جلسة المحاكمة صباح اليوم. «القضيّة ليست مسألة فرديّة، بل طريقة للتعبير عن غضبنا من محاولة الدولة العاجزة في كلّ المجالات فرض هيبتها على الفنانين فقط»، يقول فادي توفيق. الصحافي والناشط في المجتمع المدني، كان من بين الداعين إلى التضامن مع خوام. «الحائط إحدى جزر الحرية الباقية في هذا البلد، ولو سكتنا عن حقنا فيه، فستكون هذه سابقة للتمادي في قمع الفنانين أكثر». طبعاً، إذا حوكم خوام اليوم ـــ بتهمة الرسم على الحائط ـــ فستكون هذه سابقة في تاريخ القضاء اللبناني. لهذا يفكّر خوام في تنظيم «يوم عالمي للغرافيتي في لبنان» على طريقة أيام الغرافيتي العنيف في مصر. وفي هذا السياق، أعاد العديد من الفنانين رسم صورة سمعان خوام على جدران أخرى، كشكل من أشكال تبنّي «الجرم».
قضية خوام بدأت تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً بعدما أعلن الرسام المصري جنزير تضامنه مع زميله اللبناني. المشكلة أنّ محاكمة خوام تأتي اليوم لتثبت دخول الدولة في سبات عميق، وفي غربة محتّمة عن كلّ ما تشهده الساحة العربية من فورات وتحوّلات. وفي وقت يحوّل شباب مصر وتونس واليمن والبحرين وفلسطين جدرانهم إلى أدوات للثورة، هناك من قرّر في لبنان... أن يحاكم الغرافيتي.

9:00 صباح اليوم وقفة احتجاجية ومشاركة في جلسة محاكمة سمعان خوام في قصر العدل (المتحف/ بيروت)