حين يتكّلم الفنّ لغةً لا تفهمها الشعوب، يتحوّل إلى إنتاجٍ متعال منفصل عن هموم معاصريه. ثورات اليوم تشبه الغرافيتي ومشاكسات بانكسي على الجدران. لهذا نشعر ببعض الضيق حين نخرج من معرض «ثورة ضدّ ثورة» الذي يستضيفه «مركز بيروت للفنّ». الإفراط في اللعب على حافة التاريخ والثورة والسياسة في الفنون المفاهيمية الملتزمة، قد يفقد الفنّ قدرته على ملامسة الحلم والألم.
رغم الجهد الذي بذله القيّمون على «ثورة ضدّ ثورة» لجمع بعض أبرز روّاد الفنون المعاصرة في العالم، بدا المعرض تجميعاً لمواد منفصلة بعضها عن بعض، وعن اللحظة. ولأنّ مسألة «الربيع العربي» لم تتبلور بعد في الإنتاجات المعاصرة، لجأ «مركز بيروت للفنّ» إلى مرجعيّات أخرى. بحثوا عن فنانين تطرّقوا إلى أحداث سياسية ضخمة شهدها العالم خلال القرن الماضي للإضاءة على عذابات الأفراد في خضمّ التحوّلات التاريخية الكبرى.
«ثورة إيران 1978 ـــ 1979» تحضر في أعمال المصوّر الإيراني عباس، كما يستعيد التشيلي ألفريدو جار الثورة الطلابيّة في «ملاحظات على 1968». الألماني فيل كولينز يبحث عمّا بقي من أحلام في حياة مدرّسات مادة الماركسية ـــ اللينينية في ألمانيا الشرقيّة قبل انهيار جدار برلين عام 1989. في فيديو وثائقي بعنوان «الماركسية اليوم»، يقارب الحقبة الشيوعية في ألمانيا بشيء من الحنين واليوطوبيا. الثورة الثقافيّة الصينية حاضرة في عملين فوتوغرافيين لهاي بو، يركّزان على مرور الوقت، وإعادة اختراع الماضي، وفقدان الأشخاص. أمّا أعمال بوريس ميخالوف «أحمر 1968 ـــ 75»، وفاشيسلاف أخونوف «شكّ 1976» ، و«خطّة لينين لبروباغندا تذكاريّة 1981»، فتعيد اختراع أسطورة لينين والاتحاد السوفياتي عبر اللعب على رموز الفنّ في تلك الحقبة، وخصوصاً الأحمر، وتماثيل القائد، والطوابع، وشعارات الثورة، تُضاف إليها أيقونات مبتكرة لصورة ماركس.
يقارب عبّاس الثورة الإسلاميّة من زاوية كسر الصنم عبر تصوير الثوار الشباب من جهة، وجنرالات الشاه من جهة أخرى... كأنّه حدث سياسي عبثي بامتياز. بالنسبة إلى جار، الثورة لعبة «شرطة وحراميّة». والحراميّة هنا هم العسكر الذين يرون انعكاس صورتهم المقيتة في مرآة يحملها المتظاهرون.
يملك بعض الفنانين ترف المراقبة والتعليق والتوثيق أمام الحدث التاريخي. أمّا بعضهم الآخر فلا يملك تواضع الصمت. ومن بين هؤلاء الجنوب أفريقي ستيفن كوهين في عرضه الأدائي «ثريّا»، المنقول على شكل فيديو في «ثورة ضدّ ثورة». يرتدي كوهين زياً على شكل ثريا، وكعباً عالياً، ويقف وسط سكّان مخيّم يجري تدمير بيوتهم من قبل عاملين في بلدية نيوتاون (إحدى ضواحي جوهانسبورغ). يتمايل ويهتزّ مع قطعه الزجاجيّة، في حين يقوم «النمل الأحمر» ـــ كما يلقبونهم نسبةً إلى زيّهم ـــ بترحيل الأهالي بطريقة مذلّة. الهدف، بحسب الفنان، «تسليط الضوء على آليات الخلق وسط الدمار». رقص الفنان فوق الخراب، يبدو محمّلاً بالادّعاء والمبالغة.
فنانون آخرون يملكون قدرة تحويل أعمالهم إلى طاقة ملهمة. من بينهم البلجيكي فرانسيس آليس الذي ينجز استعارة مؤثّرة للثورة من خلال أداء فنّي ضخم ينقله فيديو بعنوان «الإيمان يزيح الجبال». عمل في ليما البيرو، مع مئات الطلاب، بهدف إزاحة تلّة رمليّة من مكانها الأصلي. بواسطة المعاول، تمكّن الطلاب، تحت كاميرا آليس، من إزاحة التلّة عشر سنتيمترات! قد تفكّر وأنت تشاهد صفاً متراصاً من الطلاب، يضرب جبلاً بمعاوله، في أنّه يمكن الشعوب العنيدة إزاحة الجبال، أو حتى تلوين السماء أو ربما... «تبليط البحر».

Revolution vs Revolution: حتى 30 آذار (مارس) الحالي ـــ «مركز بيروت للفنّ» (جسر الواطي/ بيروت). 01/397018



بعد الكارثة

أعمال فيديو، وتصوير فوتوغرافي، ونصوص، جمعها معرض «ثورة ضدّ ثورة»، منها أعمال تركّز على تيمة ذاكرة الجرح، والذاكرة الجماعية، واستعادة ذاكرة المجازر من خلال الصور. من بين هذه الأعمال فيديو، وصور فوتوغرافيّة بعنوان «تأطير التاريخ» (2004)، للمصوّرة الأميركيّة سوزان مايسيلاس. خلال عملها في نيكارغوا عام 1978، صوّرت مايسيلاس المجازر التي ارتكبها نظام سوموزا. عام 2004، عادت لتصوّر الأماكن نفسها، بعد مرور كلّ ذلك الزمن. كبّرت الصور القديمة على شكل ملصقات ضخمة، وضعتها في المكان نفسه الذي التقطت فيه قبل ثلاثة عقود. النتيجة، مقارنة واضحة على تحوّل المكان والزمان والأفراد بعد مرور الكارثة.