ثمّة الكثير من التقاطعات بين رواية علي بدر الأولى «بابا سارتر» (2001) وروايته الأخيرة «أساتذة الوهم» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـــ2011). عوالم المثقّفين، أوهامهم في تمثّل الأفكار الكبرى، عيشهم في زمن متخيّل. كل ذلك يطبع العملين. رغم التوصيف الحيادي في الظاهر، يستبطن عمل بدر الكثير من السخرية والتهكّم، في تناوله لغربة المثقف العربي عن زمانه. تبدو هذه التيمة في نصوص الروائي العراقي (1964) سياقاً تلقائياً أدبياً وجمالياً، أكثر ممّا هي حالة نقديّة. يفكّك صاحب «مصابيح أورشليم» حيوات أصدقائه من المثقّفين والشعراء والأدباء. بعد تشريحه الكاريكاتوري لعلاقة المثقفين العراقيين بالفلسفة الوجودية في «بابا سارتر»، يتطرّق بدر في «أساتذة الوهم» إلى لوثة الشعر التي اخترقت حيوات ثلاثة شبّان، شهدوا الحرب الإيرانية العراقيّة. شعراء جنود، يحملون البندقية بيد، ويكتبون القصيدة بيد أخرى.
يتلقّى الراوي رسالة مكتوبة بلغة بسيطة من روسيا، فتكون الذريعة الأولى للسرد. يطوّرها الكاتب لاحقاً بأدوات أخرى، تنسجم مع تقنيات أعماله السابقة. في رسالتها من بلاد بوشكين، تسأل طالبة الأدب ليلى السماك الراوي عن معلومات وتفاصيل تتعلق بشعراء الثمانينيات في العراق. الهدف إجراء مقاربة بين الشعراء الذين عايشوا مرحلة الحرب الإيرانية العراقيّة، وحكم صدام حسين، ولم ينشروا شيئاً من شعرهم من جهة، وشعراء روس مجهولين اختبروا حقبة مشابهة، ودخلوا السجون والمعتقلات خلال الحكم الستاليني من جهة أخرى. وتحدِّد ليلى في رسالتها ثلاثة من أولئك الشعراء: عيسى، والراوي الناجي الوحيد من الحرب، وأخوها منير. ستكون الرسالة باباً للراوي كي يسترجع سيرة مرحلة كاملة عاش مع أصدقائه في متاهاتها.
سنقرأ عن منير الشاعر الذي يؤدي الخدمة العسكرية، ممسوساً بالأدب الروسي، فيترجم ما يقع عليه من شعر ونصوص، ويتفاخر بأنّ أمه من أصل روسي، وصديقة شخصيّة للأدباء الروس. الشاب الحالم الذي لطالما سار في شوارع بغداد، متخيلاً نفسه في سان بطرسبرغ، يحيا في فانتازيا خاصّة. يتأثر بالديوان الخارق للدكتور إبراهيم، الذي يخدم في وحدة الميدان الطبي، ويطلق عليه أصدقاؤه لقب الدكتور «فاوست». سيقتل منير في الحرب مع إيران، ليكتشف أصدقاؤه أنّه لم يكن يعرف الروسية، بل كان يتوهم ذلك. وأنّ الأشعار التي ترجمها لهم، كانت من إبداع مخيّلته.
يفرد الكاتب المساحة الأكبر من السرد لعيسى، الذي تأخذه أوهامه إلى مراحل متقدّمة من الانفصام عن الواقع. يتماهى مع قصائده، ليعوّض بها عن قبح شكله الخارجي. سيقهر فقره المدقع، وعمله كبائع للخضار بالبحث عن عوالم أخرى، تجعله في مستوى أشهر الأدباء في أوروبا. عيسى الذي عاش حياته بين المغامرة والجنون، سيهرب من خدمته العسكرية، ويبقى ثلاثة أشهر متخفيّاً عن الأعين، لكنّه سيسلّم نفسه في النهاية، حين يصدُر عفوٌ عام عن الهاربين من الجيش. غير أنّ السلطة تتهم الشاعر الحالم بتأسيس تجمّع سياسي محظور، ليجري إعدامه بعد أسبوع واحد من تاريخ القبض عليه.
يتجاوز علي بدر في روايته هذه، مهمّة تسليط الضوء على مرحلة محددة من حياة الثقافة العراقية. يعمد إلى تمريغ الشعر في وحول الحرب وقذارتها، من دون أن يعرّض القصيدة للتلوث. هذا ما يفسر ابتعاده عن سرد تفاصيل الحرب ومجرياتها، واستخدامها خلفيّة لنصّه فقط. كأنّ بدر أراد أن ينتصر الشعر على الحرب، بعدما انتصرت الحرب على أوهام أولئك الشعراء الجنود، ودفعتهم إلى مصائر عبثية... أقلّها الموت.



المثقف والموت والخراب

من خلال سيرتَيْ منير وعيسى، سيرسم علي بدر صورة أوسع لواقع المثقّفين العراقيين في زمن الحرب والموت والخراب. يحكي عن اهتماماتهم، وقراءتهم، وتأثرهم بالكتّاب الأوروبيين، وانفصال طموحاتهم عن الواقع. يأخذنا الكاتب إلى مقاهي بغداد وأحيائها وأزقّتها. صاحب «خرائط منتصف الليل» الذي أرشف فيه رحلاته إلى العديد من المدن في العالم مستطلعاً مطارحها السرية، يتقن التوغل في الأمكنة ونبش خصوصياتها. شخصيات مختلفة تمر في النص، تبرز حالة الشتات العراقي في تلك الأمكنة، وتكشف حقبة من تاريخ وجع بلاد الرافدين.