لا يمكن العبور إلى Persona من دون الإضاءة على ما كان عليه برغمان في الستينيات: طريح الفراش في المستشفى بعد إصابته بذات الرئة. هناك، ستهبط عليه فكرة «برسونا» كحبل نجاة، فيمضي في تصويره بعد مغادرته المستشفى مباشرة عام 1965. لعلّه الفيلم الأهم، قال عنه إنّه أنقذ حياته، وبلغ فيه أقصى ما يمكن أن يذهب إليه. Persona الذي يعني باللاتينية القناع، ذاك الذي كان الممثلون يضعونه في التراجيديا الإغريقية، يحيلنا إلى منهج كارل غوستاف يونغ التحليلي. إنّه القناع الذي يضعه الانسان في أداء دوره الاجتماعي.
«أصبحت السينما وسيلتي للتعبير» يقول برغمان في سياق حديثه عن «برسونا». نقل ذلك إلى الفيلم سيجعله تطبيقاً بصرياً قبل أي شيء آخر. يروي بالأسود والأبيض وبتركيز على وجوه الشخصيات، قصة ممثلة تقرر فجأة الصمت والتوقف عن نطق حرف واحد حيال هذا العالم المتوحش.
إننا أمام امرأتين: الأولى صامتة، والثانية لا تتوقف عن الكلام يجمعهما بيت على شاطئ ناء في جزيرة فارو السويدية. الأولى ممثلة اسمها اليزابيث فوغلر (ليف أولمن) تتوقّف فجأة عن الكلام خلال تأدية دور إلكترا في المسرحية الشهيرة، والثانية ممرضة تتولى رعايتها اسمها ألما (بيبي أندرسون). تضع هذه الأخيرة كل حياتها أمام إليزابيث، تحكي لها كيف تحبّ رجلاً متزوجاً، وتشعر ببرود تجاه خطيبها، وصولاً إلى نزواتها وعوالمها ومشاعرها. بعد ذلك، تكتشف ألما رسالة تبعثها إليزابيث إلى الطبيب المسؤول عنها تتندّر فيها على ما ترويه لها ألما بشيء من التعالي يدفع ألما إلى الجنون جراء اكتشافها المؤلم. إنّه فيلم المعاناة، والخيانة، والغيرة لكن أيضاً الرغبة والشغف المجنون.
هذا هيكل الشريط الذي تتحرك فيه هواجس ومخاوف لا نهاية لها. صمت إليزابيث متأتٍ من عجزها عن «استيعاب الكوارث الكبرى» التي تشاهدها على التلفزيون «هي لا تلامس فكري. أقرأ هذه الفظاعات بشيء من الشهوة، بورنوغرافيا الرعب». الفيلم مأزوم، يفتتح على مجموعة صور أبوكاليبتية. لعل تأزم علاقة إليزابيث وألما سيكون آخرها، فهو يبدأ من أزمة إليزابيث مباشرة، علاقتها بكل ما حولها، وعجزها عن تحمّل الكذب والزيف والأقنعة.
هناك مشهد غرائبي في الفيلم ندع وصفه للسيناريو الذي كتبه برغمان: «بعد الحديث الطويل، يهبط المساء ثم الليل، عندما تنام ألما، يبدو الأمر فجأة كأنّ أحداً ما يتحرك في الغرفة، كما لو أن الضباب يدخل إليها ليحوّلها إلى حجر. كما لو أن قلقاً كونياً يسقط فوقها، تجرّ نفسها لتذهب وتتقيأ من دون طائل، وتأوي إلى الفراش من جديد، ترى حينئذ أن باب السيدة فوغلر مشقوق. تدخل وتجدها غائبة عن الوعي أو كالميتة. فيستولي عليها الخوف وتمسك بالهاتف لكن ليس هناك حرارة. عندما تعود إلى الميتة، ترمقها هذه الأخيرة بنظرة ماكرة، وفجأة تتبادلان طبعيهما». من المهم السؤال هنا كيف يتبادلان طبعيهما؟ خصوصاً أن برغمان يورد في السيناريو ملاحظة مفادها «لست أعرف بالضبط كيف». لكن لدى تصويره، حاول أن يعرف، وقد فعل، ونحن أيضاً سنحاول اكتشاف ذلك خلال المشاهدة، وقد مرّ على تصويره 47 سنة.



* 8:00 مساء الثلاثاء 7 شباط