الفصل الأخير من مصرع: محمد العبدالله | تعرفتُ إلى محمَّد العبد الله في بغداد في الثمانينات حين جاء مشاركاً في مهرجان المربد الشعري، الذي كان نموذجاً مكثفاً لتظهير صورة الشعر العربي أمام الوسط الثقافي العراقي آنذاك بين مُهادن ومحتج! بينما تبدو الصورة العامة للمهرجان انه حشد للتبجيل تقيمه الدكتاتورية في بلد يعاني مثقفوه الاضطهاد، فإنه في التفاصيل الأخرى منه، مناسبة للتعرُّف على أصوات مختلفة، أصوات تنحاز إلى شعر الحياة، لا شعر منابر المديح والتوشيح المعتاد. في تلك الفترة تعرفنا على أسماء وفيرة من الشعر اللبناني ممن يجسدون هذه الأصوات، إضافة إلى محمد العبد الله، كان محمد علي شمس الدين، وجودت فخر الدين، وشوقي بزيع، ووديع سعادة، والراحلة صباح زوين، وعقل العويط وسواهم. ومنذ تلك السنوات، جمعتني بأغلبهم علاقة شخصية.
ندفع في جحيميتها بحثاً عن وردة أبيقور وحانة سيدوري، وشراب باخوس
امتدَّت إلى دمشق وبيروت، وظلُّ كل منهم يواصل الكتابة والحياة بما يناسبه، وكان محمد يواصلها بالطريقة التي تناسبه أيضاً:«- وكيف حصل ذلك؟
- كل يوم
- ومتى حصل ذلك؟
بالطريقة المناسبة»
حين التقيته للمرة الأولى، لاحظتُ أن ملامحه الحادة، والصخب الداخلي المتقد في عينيه لا يعبران عن التصور النمطي للشخصية اللبنانية التي تبدو مسترخية وهادئة، حتى إني مازحته مرة بأنه ينتمي إلى جنوب آخر غير الجنوب اللبناني. كانت تسمية شعراء الجنوب قد سبقت مجموعة من شعراء لبنان إلى العراق، مثلما سبقتهم دواوينهم. حتى إنني سألت عقل العويط وقتها: وهل أنت من شعراء الجنوب أيضاً؟ فأجابني: بل أنا من الشمال!
كان ديوانا «رسائل الوحشة» و«جموع تكسير» إعلاناً ومن ثم تكريساً لشعر يجمع بين الجزالة والحداثة، باتساق لافت، بين بلاغة الفن، والحضور المكثف للحياة بطريقة مختلفة حيث المفارقة التهكمية السوداء تتخلق من يوميات عادية لتخلق دهشة بسيطة وعميقة، وخاصة في القصائد التي تقارب الحرب الأهلية وهي تطحن الحياة من حوله بينما يمضي هو في استنقاذ ما تبقى منها والتقاط صور فوتوغرافية غاية في الدهشة لترميم الخواء الإنساني الداخلي.
أنه من أولئك الشعراء الذي قتلتهم الحياة لا الموت، لقد اندفع في جحيميتها بحثاً عن وردة أبيقور وحانة سيدوري، وشراب باخوس. وهو بهذا يشبه جنوباً آخر بحق: عقيل علي، وكمال سبتي وسواهما من شعراء عاشوا بشروطهم الصعبة في حياة لها شروطها الصارمة كذلك، فدفعوا ثمناً باهظاً أودى بهم إلى الاستشهاد أكثر من الموت. بيد أنه بقي أكثر صموداً بإصرار محارب فينيقي، وروح كلكامشية لا تستسلم بسهولة وأن كان الأمر في النهاية آيلاً إلى الفناء الحتمي.
لقد استشعر وحشته في وقت مبكر، وحشة الشاعر في عالم محبط ومليء بالهزائم بشتى صورها، وأراد أن يكون ملحمياً في حياة شبه خاوية. العقود الأخيرة من حياته ربما توجز تلك الخلاصة التي وصل إليها جدُّه كلكامش وحصل عليها من سيدة الحانة: الرحلة محكومة بالنهاية، والأعمار محكومة بالفناء، فإلى أين المُضيّ؟ فالحياة التي نبغي، لن نجد. ومع هذا، كتب محمد العبد الله حياةً أخرى بالحبر والنبيذ والأخطاء المتكررة، لا ليقدم بتلك السيرة الخاصة موعظة لأحد في هذا العالم، بل ليعلن أن عبوره في هذا العالم الجحيمي لم يكن مجرد عبور طارئ.

* شاعر عراقي