«تسييس الثقافة» هو العنوان العريض لعام كامل عاشته الثقافة المصرية في تحولات كانت في الاصل انعكاساً لواقع سياسي مضطرب تعيشه القاهرة منذ «ثورة 25 يناير»، لكن العام الذي شهد عزل الرئيس محمد مرسي زاد من حدة الاستقطاب السياسي من ناحية، وأظهر من ناحية أخرى "نزعات فاشية" كانت كامنة في نفوس بعض المثقفين الذين اختزلوا أزمة الثقافة في تيارات الاسلام السياسي، وقاموا بالتحريض على مثقفين آخرين لهم تصورات بديلة لتعامل الدولة الحالي مع الإسلاميين. وباسم استرداد «هيبة الدولة» ودعمها في المعركة التي تخوضها ضد الإرهاب، بات فصيل آخر من المثقفين ضمن غلاة الداعين الى عسكرة الثورة أو تنصيب رئيس جديد قادم من المؤسسة العسكرية. وتلخص صور الاعتصام الشهير الذي قاده مثقفون لإبعاد وزير الثقافة علاء عبد العزيز الذي اختارته حكومة محمد مرسي مشهداً آخر فرض نفسه على الثقافة المصرية طوال ستة أشهر أعقبت 30 يونيو، بحيث باتت تمضي بين مسارين، الأول استعادة علاقة متوازنة مع مؤسسات الدولة والثاني مقاومة فكر الإسلاميين المتطرفين.
وما بين المسارين، ثمة شبكات واسعة لتحالفات جديدة بين الدولة وقطاع من المثقفين، وهو تحالف تجلى طابعه الهش على صعيد الممارسة، لكنه انعكس في بعض المكاسب التي نالتها بعض الاسماء التي تصدرت الاعتصام، وبطريقة عقدت من طبيعة المشهد. فإذا كان الاعتصام أظهر الوزن الرمزي للثقافة المصرية وحضورها في الشارع الا أنه شجع السلطة الجديدة في نفس الوقت على إعادة استعمال المثقف وإرهابه بفزاعة «الاسلاميين». فمنذ التحول الدرامي في المشهد السياسي المصري في 3 تموز (يوليو) الماضي، التقط النظام مخاوف المثقفين من الاسلاميين الذين سعوا طوال عامين للهيمنة على المجال العام، لذلك بدا لافتاً حرص الرئيس المصري المؤقت عدلي منصور على تكرار لقاءاته مع المثقفين لبعث رسائل الاطمئنان لهذه الفئة التي رأت أنّها «مهددة» من قبل الإسلاميين في الحريات العامة، خصوصاً حرية الرأي والتعبير. وفي المقابل، سعى المثقفون الى استعادة صورة المثقف الطليعي. ومع ازدياد حدة الأزمة مع الولايات المتحدة والغرب، بدوا راغبين في إعادة إنتاج نموذج «مثقف التحرر الوطني». وما يزيد من إغراء هذا النموذج أنّ أغلب الطليعة المصرية من جيل الستينيات المفتون بالنموذج الناصري تتصدر المشهد في الثقافة كما في السياسة، زدْ على ذلك أنّ بعضهم يزكّي عملية تحويل السيسي الى «ناصر جديد»، وهي عملية تبدو في الواقع وثيقة الصلة بعودة أجهزة الدولة الايديولوجية للعمل على قدم وساق بالصيغ القديمة ذاتها التي صاغت قانوناً يجرّم التظاهر بعد ثورة شعبية في سياق لا يمكن فصله عن إصرار أمين عام المجلس الأعلى للثقافة على عودة احمد عبد المعطي حجازي مقرراً للجنة الشعر وممثلاً للنظام الثقافي القديم الذي استعاد كامل عافيته بعودة الوزير صابر عرب الذي كان أحد كبار الطهاة في مطبخ وزارة فاروق حسني، وتمكن من العيش في مساحة آمنة مع المجلس العسكري ومع نظام الإخوان حتى استقالته من الحكومة بزعم خفض موازنة الوزارة. لذلك لم نسمع لهذا الوزير صوتاً في كل المعارك التي تلت عودته واستهدفت النيل من علامات ثقافية ارتبطت بفضاء الثورة، فلم يُظهر على سبيل المثال مواقف واضحة من التحرشات التي قامت بها أجهزة الدولة بفناني الغرافيتي، ولم يُظهر وجهة نظر الوزارة في قضية بناء نصب تذكاري لشهداء الثورة، وهي القضية التي تركها كاملة لمحافظة القاهرةعلى الرغم من طابعها الجمالي، كما لم يفعِّل أياً من توصيات مؤتمر المثقفين الذي بدأ به مرحلته الجديدة في الوزارة، وهو مؤتمر عبّر عن لحظة توافق نادرة بين سلطة سياسية جاءت كرد فعل لتغييرات 30 يونيو، ومثقفين اعتبروا أنفسهم شركاء في فعل التغيير، وأكثر من ذلك صُنَّاعاً له..
والأمر الواضح أن الدولة استثمرت المؤتمر لاستهداف القطاع الثقافي المستقل أو المعتمد على تمويلات أجنبية من قبل مشاركين من خارجها، وهواستهداف لم يكن بعيداً عما يجري في الفضاء السياسي بل كان مكملاً له، حيث يجري العمل على محاصرة مؤسسات المجتمع المدني الحقوقية واتهامها بـ «العمالة»، لأنها لم تكن راضية تماماً عن شكل تعامل السلطة الجديدة مع الإسلاميين في اعتصام رابعة، وأظهرت رفضاً للملاحقات الأمنية وحملات الاعتقال التي جرت بحق منتمين إلى جماعة «الإخوان».
وكرّس هذا التلازم بين شهوة الدولة لالتهام القطاع المستقل ورغبة بعض المثقفين في خدمة مشروعه السياسي الجديد مخاطر واضحة تهدّد القطاع الثقافي الأهلي الذي تحمّل العبء الأكبر في السنوات العشر الأخيرة التي تكلسّت فيها الخدمة الثقافية، وبطريقة شجعت على أن يطرح بعض المثقفين، وللمرة الأولى، فكرة إلغاء وزارة الثقافة وتحويل موازنتها إلى صناديق دعم وتمويل لكسر احتكار الدولة لعملية الإنتاج الثقافي وتوزيعه. وهذا الطرح يهدد وجود وزارة الثقافة مستقبلاً، ويُفقد الدولة أحد أدواتها في «التوجيه والتعبئة والارشاد». ومن ثم كان المؤتمر وغيره من المناسبات التي تلته آلية وزارة الثقافة للدفاع عن وجودها عبر «وكلاء جدد» منتمين إلى «القوى الثورية»، لكنه على الرغم من ذلك لم يخلُ من انتقادات وجهت للوزير الداعي للمؤتمر كعراب «للفساد» بوصف بيانات تيار الثقافة الوطنية. وهو تيار لديه في نفس الوقت مخاوف من نشاط المؤسسات المستقلة الداعية الى سياسات ثقافية جديدة خوفاً من أن تؤدي عملية إعادة هيكلة وزارة الثقافة الى تفكيكها ومن ثم تقليص الخدمة الثقافية المدعومة من الدولة في بلد يعاني نصف سكانه من الأمية.