«بات العراق سجناً كبيراً». عبارة أطلقها العراقيون على بلدهم منذ ثمانينيات القرن المنصرم. عبارة آمن بها المثقف العراقي؛ لكونه الأكثر تعرضاً للظلم وقمع الحريات. العراق، أو السجن الكبير، تحوَّلَ إلى معتقلٍ رمزي لوصف بلد بأكمله في رواية «الفئران» (دار الجمل ـــ 2013). يحاول الشاعر والروائي العراقي حميد العقابي هنا نقل فانتازيا الواقع العراقي خلال فترة الحكم الديكتاتوري من خلال عمل أدبي يصف مكابدات شعب ظل في نظر السلطة مجرد فئران تجارب لقراءة مقدرتها على تحمّل الإذلال والخوف والتنكيل والموت. ها هو المؤلف يضع شخصياته على شكل فصيل من البشر بمختلف الأعمار والاختصاصات يقف صاغراً أمام جنرال متغطرس وسط صحراء أو «لا مكان» ليخبرهم سر وجودهم: «خطا بخيلاء وهو يهز هراوته جالداً الهواء، أو يولجها في كفه كأنه يغتصب الفراغ، ثم ارتفع صوته كانفجار لغم: أبنائي الأعزاء. أصغوا إلي جيداً. أنتم لستم مجرمين. أنتم مواطنون صالحون في هذا البلد الكريم. لكن وقعت عليكم القرعة بأن تكونوا.

تكونوا. تكونوا فئران تجارب. نعم. نعم. فئران تجارب لمعرفة طاقة البشر القصوى على تحمل المهانة». إذاً، فالرواية تمثل الكابوس العراقي الذي ظل جاثماً على أرواح العراقيين منذ اعتلاء الديكتاتور سدة الحكم، ليصبح الشعب العراقي، مجرد «مجموعة من السجناء، ودّعوا ماضيهم خلفهم وألغي حاضرهم، أما المستقبل فهو وهم إنْ تجسدَ، فإنّه لا يبعد خطوة واحدة خارج الزنزانة».
في «الوطن الكبير» أو المعتقل أو المختبر، غيَّرَ السجانون أسماء المعتقلين وتحولت أسماؤهم «البشرية» إلى أسماء حيوانات أو ألقاب مهينة: غراب، حمار، ثور، بعير، عتوي، قرد، خنفس، أبو بريص. أما بطل الرواية، فصار اسمه «واوي»، حتى نسي بعض السجناء أسماءهم الحقيقية مع الوقت. بذلك، يؤكد المؤلف عمليات أو محاولات مسخ البشر التي مارستها السلطة على الشعب. لكن إلى أي حد يمكن البشر تحمّل هذا؟ تُرى، هل هناك من يثور على واقعه طلباً لحريته أو بحثاً عن إنسانيته؟ سؤال يجيبنا عنه أحد شخوص الرواية، لكن بطريقته المنهزمة: «إن كانوا يريدون أن يعرفوا طاقتنا على تحمّل المهانة، فها إنني أمامكم أعلن أنهم قد نجحوا في مسخنا ليس اليوم بل منذ أكثر من عشرين سنة، وها أنا أعلن لهم بلا خجلٍ. أنا حمار». هذه العبارة التي تفصح عن انهزام الروح، تحدّد للقارئ بنحو غير مباشر زمن أحداث الرواية؛ إذ يتضح أنّ احداث الرواية تقع بين عامي 1994 – 1995 كما يؤكد المؤلف في عبارة أخرى: «لم يكن الأمر إلقاء القبض على جنود فارين من جبهات القتال، فالحروبُ قد انتهتْ منذ ثلاث سنوات، وقد «انتصر» جيشنا على الرغم من التنازل للعدو عن عمق أكثر من عشرين كيلومتراً من الأراضي على طول الحدود الدولية»، ما يعني أنّ الرواية تدور بعد ثلاث سنوات من انتهاء حرب تحرير الكويت. وبهذا، يشير المؤلف إلى أصعب فترة مر بها الشعب العراقي، إنها فترة الحصار والجوع وخطف وبيع الأطفال والفتيات أو موتهم. الفترة التي انتزع فيها العوز والإذلال إنسانية وكرامة الإنسان العراقي.
يمنح حميد العقابي أهمية خاصة لشخصياته من أجل تشكيل المكان المحيط بها. المكان الذي يبدأ بصحراء جرداء وتيه واضح ينحسر تدريجاً ليصبح زنزانة ستشكل المسرح الرئيس لأحداث الرواية. زنزانة لا تضم بين جنباتها سياسيين أو معارضين للنظام بالمعنى الحقيقي، بل أناساً مسالمين من شعراء وكتّاب وعلماء وأصحاب مهن حرة، ولم يغب عنها حتى المثليون وكتّاب التقارير والمندسون لمصلحة النظام. إنها صورة شعب كامل صاغها المؤلف بتقنية عالية عن طريق مشاهد وحوارات مختصرة منحت القارئ فرصة جيدة للتأمل.
الواضح أنّ فكرة طرح الواقع الذي كان يعيشه الإنسان العراقي في فترة حكم الديكتاتور بكل مرارته وكوارثه الإنسانية بصيغة أدبية روائية، لم تكن هدف المؤلف الوحيد، بل كادت حتمية الثورة على الواقع المُذلّ أن تكون الفكرة الأساس للرواية. فهذه الرواية التي كتبت قبل ثماني سنوات من صدورها ودارت على أكثر من دار نشر ماطلت بها، كان ممكناً أن تكون نبوءة لتفجّر ثورات «الربيع العربي» لو أنها نُشرت في وقتها الصحيح، إلا أن صدورها المتأخر أفقدها بعض بريقها. هذا ما يؤكده لنا حميد العقابي قائلاً: «في رواية «الفئران»، حاولت أن أرصد حالة المجتمعات العربية التي جعلتها الأنظمة القمعية فئران تجارب، فكانت النتيجة ما نراه اليوم من قتل وتخلف وانحطاط قيم».