كوبنهاغن | "إن كنا نستطيع أن نطلق كلمة "هجرة" على حالات إنسانية معينة، ومنها أن تهجر وطنك وتستبدل أوراقك الثبوتية بأخرى جديدة وتنتمي لمجتمعك الجديد كلياً، فإننا لا نستطيع أن نطلق هذه الكلمة على الانتاج الفني، أرقى ما أبدعه الإنسان على مر العصور. هذا الإنتاج لا يهاجر من مكان إلى آخر، بل ينتقل بشكل طبيعي وغريزي ليشكل النسيج الحضاري للبشرية. إن أهمية الفن العالمي المعاصر اليوم لم تتشكل من الإنتاج الإقليمي المحدود في هذا البلد أو ذاك أو في تلك المنطقة أو القارة وحدها، بل من مجموع كل تلك الحضارات والثقافات والجذور التاريخية والأساليب الحياتية المختلفة".
بهذه الكلمات يرشدنا رافع الناصري إلى سر تجواله المستمر بين عواصم العالم منذ رحلته إلى بكين حتى أيامه الأخيرة التي انطفأت شمعتها قبل يومين في عمان. لكنه لم يخبرنا عن الموت والسفر الأبدي في أرض غير أرض بلاده!

رحل الفنان الذي تقترب أعماله بأجوائها من الأحلام، كأن خياله يصرّ على أن يرينا أحلامنا من دون أن نخلد إلى النوم. نراها نتلمسها ونحللها لنجد "ربما" زاوية أو شكلاً أو حتى نقطة صغيرة تشبهنا. رحل تاركاً لنا أعماله التي تتمتع بأكثر من بعد مرئي، بالإضافة إلى الموسيقى التي غالباً ما يصاحبها صوت شعري بعيد، لكنه مسموع بوضوح تام.
"الخلود والموت والحب" أبعاد ثلاثة ظلت تميز أعمال هذا الفنان لعقود. أبعاد ثلاثة ظل يشتغل عليها بجهد إستثنائي، حتى استسلم إلى البعد الثاني ليرحل عنا تاركاً كنز بحوثه بين أيدينا. هذا الفنان الذي كان أحد الموقعين على بيان "الرؤية الجديدة" في الستينيات، دعا إلى الكف عن رؤية العالم كونه عالماً ساكناً غير قابل للتغير، مشيراً إلى أهمية اكتشاف الجوهر الحقيقي للأشياء، وعلى الفنان أن يضع نفسه إزاء التحديات للعالم الخارجي. في هذا البيان، طرح رافع الناصري رؤيته في أبعادها الثلاثة – حسب ما يراه أستاذه شاكر حسن آل سعيد في كتابه "فصول من تاريخ الحركة التشكيلية" - "الخلود والموت والحب" وذلك حينما يقول الناصري: "إعطاء الخلود والموت والحب روحية وشكلاً معاصراً من خلال رؤى وأحاسيس وتجارب، بعيداً عن كل المؤثرات والقوانين الفنية (المفروضة)." وهو هنا يفصل ثلاث مفردات تؤلف لديه ما يشبه "أبجديات" مضمونية سيتناولها في فنه في ما بعد كوسيلة تعبير في أسلوب "ما بعد تجريدي" يدور حول استلهام الحرف العربي في الفن."

رافع الناصري، الفنان الإستثنائي الذي ظهر في الفترة العراقية الحاسمة التي تحول فيها العراق إلى جمهورية بعدما كان ملكياً، لم يكن فناناً فحسب، بكل كان كاتباً مرموقاً يشعر بأهمية الكتابة عن الفن ليتمّم وضوح الرسالة الفنية عند المتلقي. فهو من الفنانين النوادر الذين كانوا يكتبون في الصحافة عن تجارب ورؤى فنانين آخرين، ولم يقف عند شريحة معينة، فقد كتب عن الأساتذة كما كتب عن الطلبة. كان التمييز ووضوح الفكرة أهم الأشياء التي تثير داخله الرغبة في الكتابة، وكان مؤمناً بأن الساحة الفنية بحاجة إلى أقلام تظهر نتاجها وأفكارها إلى القارئ، وكانت تلك الحالة ما ينقص الساحة الفنية بالفعل. نراه يكتب عن جبرا إبراهيم جبرا وإسماعيل فتاح الترك ومحمد مهر الدين وشاكر حسن آل سعيد، كما يكتب عن سامر أسامة ونديم محسن وغيرهما. ولم تغب بغداد عن مقالاته، فقد كتب عنها العديد من المقالات خصوصاً تلك الفترة المرة التي عانت فيها فجيعة الحصار، وهيمنة الطائرات الأميركية على سمائها لأكثر من عقد كامل: "عائد من بغداد، حيث قضيت أياماً ساخنة، تبدأ بصواريخ ظالمة موجهة نحو هذه المدينة الجميلة، وتنتهي بنسمة ملؤها الرقة والمحبة تنساب من آخر لوحة أنتجت وما زال لونها طرياً. بغداد وبعد كل هذه المعاناة والصعوبات الحياتية التي لا توصف، تنتج فناً وثقافة وتبدع كما الأيام الخوالي بل ربما أكثر."
رحل رافع الناصري من دون أن تحتضنه بغداد، أو يحتضنها. رحل لينضم إلى كوكبة المبدعين الذي غابوا حاملين ألماً على بلد كان لهم يوماً ما.