دمشق | لدمشق حصتها في ذاكرة أحمد فؤاد نجم، مثلما له حصته في ذاكرة الشام، منذ أن وطئت قدماه ترابها لأول مرّة، مطلع ثمانينيات القرن المنصرم. أتى برفقة الشيخ إمام كي يحييا أمسية غنائية. الصوت الشجي للشيخ الضرير، والقصائد الغاضبة لـ«الفاجومي». احتشدت صالة «ملعب تشرين الرياضي» بجمهور متعطش لنصٍ مغاير. غادر الشيخ إمام دمشق بعد أيام، وامتدت إقامة أحمد فؤاد نجم إلى خمس سنوات كاملة. البيت الذي استأجره في شارع العابد، وسط دمشق، كان محطة لشباب اليسار ، و«غرزة» لاستنشاق لحظة حرية مقموعة، ومشاريع لإطلاق أغنية طليعية، انتهت بتأسيس فرقة «المسحراتي» التي انطفأت برحيله إلى القاهرة. لن تخلو مكتبة شخصية دمشقية من كاسيت للشيخ إمام ونجم، ولن تكتمل سهرة شبابية يسارية من دون استعادة هذه الأغاني بروحٍ محليّة، إذ لطالما افتقدت دمشق شاعر عاميتها.بعد نحو ربع قرن، عاد الفاجومي مرّة أخرى إلى دمشق التي يسميها «معشوقتي» بأمسيات أكثر صخباً وغضباً، توزّعتها مدرجات جامعة دمشق، وفضاء القلعة. الفترة الفاصلة بين هذين التاريخين عبرتها رياح عاصفة، لكن قصائد شاعر العامية الغاضب ظلت حاضرة بقوة، خصوصاً تلك التي أهداها إلى دمشق، بوصفها عاصمة الإقليم الشمالي لدولة الوحدة، وكأن لحظة الانفصال لم تقع إلا في الوثائق الرسمية. في زيارته الأخيرة لدمشق، قبل نحو ثلاث سنوات، كانت غرفته في فندق «الفردوس تاور» مضافة مفتوحة لجيل جديد، وجد في هذا الفلاح المصري بجلبابه وعفويته وسيجارته المشتعلة على الدوام أيقونة فريدة لصورة الشاعر، لا تشبه صور الآخرين في نخبويتها، إذ لم يتردّد لحظة واحدة في أن يكون ضيفاً على «بيت القصيد» بكل فوضاه وصخبه الشبابي. ألقى قصائد أكثر شجناً، وروى شذرات من سيرته في المعتقل، وعرّج على بوصلة شعره المتمرّد، قبل أن يزحف الصحافيون إلى غرفته لاستكمال حالة الشغف. ليست قصيدة أحمد فؤاد نجم إذاً ميراثاً مصرياً خالصاً، فقد وزّع أسباب البلاغة على جهات الخريطة العربية، من دون مواربة، وكانت دمشق في الواجهة، أمس واليوم، فهو أحد الشعراء الذين أعلنوا موقفاً صريحاً في الدفاع عن دمشق من طغيان البرابرة.